إنه الغضب الذي تجنبته الحكومات المصرية المتعاقبة والذي لم يعد بإمكانها أن تتجنبه: التعويم الكامل للعملة. أخيراً وبعد أن اعتمد في نوفمبر 2016، تراجع الجنيه المصري مقابل الدولار بين عشية وضحاها، ما دفع البلاد إلى عصر جديد من المخاطر.. والفرص أيضاً.
كان تعويم الجنيه، الذي طال انتظاره، وفقاً للمحللين ورجال الأعمال، الإجراء الأكثر جذرية من بين التدابير الحساسة سياسياً التي نفذتها الحكومة المصرية للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار.
والهدف من ذلك ليس فقط تعزيز المالية العامة الهشة في البلاد وتخفيف النقص الحاد في الدولار الذي يخنق الاقتصاد، لكن أيضاً لضمان موافقة صندوق النقد الدولي على برنامج الاصلاحات لاستعادة ثقة المستثمرين. وقد تضررت ثقة المستثمرين بمصر جراء سنوات من الاضطرابات السياسية وسوء الادارة منذ ثورة 2011 التي أطاحت الرئيس الأسبق حسني مبارك.
جلبت الأسابيع الأخيرة علامات تجدد اهتمام المستثمرين في مصر. فبعد سنوات من الغياب التام تقريباً، عاد الأجانب الى سوق الدين المصري، واشتروا أكثر من 3.3 مليارات دولار من سندات الخزينة حتى منتصف مارس، وفقاً لوزارة المالية. كما أصدرت مصر أيضا سندات مقومة باليوو بقيمة 4 مليارات دولار في نهاية يناير تم تغطيتها بثلاث مرات أكثر. وقال المصرفيون إن السوق السوداء للعملات قد اختفت، والتحويلات المالية في ارتفاع، وفقا للأرقام الرسمية، ما أدى الى تحسن سيولة الدولار في البنوك.
في فبراير، سجل مؤشر بنك الإمارات الوطني لمديري المشتريات، الذي يقيس النشاط في القطاع الخاص غير النفطي، ارتفاعه الثالث على التوالي ليصل الى 46.7. ولا يزال المؤشر دون مستوى 50، ما يعني أن الاقتصاد لا يزال في حالة انكماش، لكن الارتفاع يشير الى تحسن في ثقة الأعمال.
ويقول بنك الامارات دبي الوطني أيضاً إن الشركات بدأت في الابلاغ عن زيادة في الطلب على الصادرات، ما يشير إلى أن الجنيه الضعيف يزيد من القدرة التنافسية. في دوائر الأعمال هناك مزاج جديد من التفاؤل الحذر، لكن أيضا مطالب لاجراء مزيد من الاصلاح ووعي بأن الوضع لا يزال هشا ومشوباً بالغموض.
يقول حسين شكري رئيس مجلس ادارة شركة اتش سي للأوراق المالية والاستثمار: «ما فعلته مصر كان برأيي ضرورياً ومتأخراً. لكن يجب ألا تتوقف هنا. يجب أن يكون ذلك وسيلة لتحقيق نتيجة نهائية. نحن بحاجة الى رؤية ادارة أفضل للاقتصاد عموما واتخاذ قرارات أفضل».
تواجه مصر عجزاً في الميزانية بلغ %12.2 من الناتج المحلي الاجمالي في السنة المالية المنتهية في يونيو 2016؛ ومن المتوقع أن ينخفض الى %10.1 في السنة الحالية. ويصل الدين المحلي إلى %95 من الناتج المحلي الإجمالي.
ويقول مصرفيون إن زيادة تدفق الدولارات مكنت الحكومة أيضاً من تسريع المدفوعات للمستثمرين الأجانب الذين كانت أرباحهم عالقة في مصر بسبب النقص في العملة. ويأمل المسؤولون والشركات المحلية أن يتبع تدفق الأموال الساخنة الى الدين الحكومي، والى حد ما الأسهم، انتعاش في الاستثمار المباشر الأجنبي الذي يعتبر أمرا حاسما لخلق فرص عمل في بلد يعاني ارتفاع معدلات البطالة (%12.4 في الربع الأخير من عام 2016 وأعلى بكثير من هذه النسبة بين الشباب).
يقول أنغوس بلير الرئيس التنفيذي للعمليات في فاروس القابضة وهو بنك استثماري مصري إن تخفيض قيمة العملة وضع مصر على خريطة الاستثمار الدولية. لكنه يرى أن الحكومة بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لتحسين بيئة العمل للقطاع الخاص. ويضيف أن هذا يشمل خفض المعدل الأعلى للضرائب عند %22.5، والحد من الروتين، ومعالجة «الادارة والحوكمة بشكل عام من حيث مشاركة الدولة وتدخلها في الاقتصاد، الذي يمكن أن يكون ثقيلا جدا. كما أن بيئة الأعمال بشكل عام بحاجة الى أن تدار من قبل أشخاص قادرين على أن يقولوا «نعم» بدلا من «سنرى» أو «لا».
ويقول مصرفيون ان أحد المخاوف الرئيسية حاليا بالنسبة للمستثمرين الأجانب هو ما يعتبر «خطر التنفيذ». ويعتبر رصد ومراقبة صندوق النقد الدولي لالتزام مصر ببرنامجها للاصلاح الاقتصادي بمنزلة ثقة ملهمة بالتزام الحكومة، لكن البعض يخشون أيضا من أن الضغوط الاجتماعية الناجمة عن ارتفاع معدلات التضخم ووضع حد أقصى لأجور القطاع العام وتخفيض الدعم، يمكن أن تؤدي الى توقف السلطات عن المضي قدما بالاصلاحات. وقد ترك تخفيض قيمة العملة والتدابير التقشفية التي فرضها صندوق النقد الدولي أثراً مؤلماً في الداخل تجلى في التضخم: اذ بلغ المعدل السنوي %31.7 في فبراير.
يقول شريف الحلو المدير التنفيذي في «أرقام كابيتال» أحد البنوك الاستثمارية الاقليمية «ما قدرة الحكومة على التمسك بهذه الاصلاحات والالتزام بها حتى النهاية؟. هذا هو السؤال الذي يطرحه المستثمرون. هم قلقون من امكانية حدوث منعطف أو أن تغير رأيها لأننا في الواقع سنمر بالكثير من الألم. بالنسبة لمصر، ليس هذا تحديا صغيرا بل هو تحول زلزالي».
ثمة ملاحظة لبعض المستثمرين وهو الدور المتنامي للجيش في الاقتصاد. ففي ظل غياب الاستثمارات الخاصة في السنوات الأخيرة، أمسك الجيش بالوضع وعمل على تأسيس الشركات أو تولي زمام شركات قائمة والعمل في قطاعات مثل الصلب والاسمنت.
وأثنى عبدالفتاح السيسي الرئيس المصري والرئيس السابق للقوات المسلحة على الأنشطة الاقتصادية للجيش ودوره في بناء البنية التحتية وتوفير خدمات رخيصة للجمهور.
لكنه سعى أيضا الى طمأنة القطاع الخاص الذي يخشى ألا يكون قادرا على التنافس مع هذه المؤسسة القوية والنافذة.
ويقول المصرفيون إنه في حين يشكل هذا الأمر مصدر قلق في بعض القطاعات، الا أنه لا يثير قلقا كبيرا في أي مكان آخر في سوق تتكون من 90 مليون شخص. ويقول الحلو إن المستثمرين يشعرون بالقلق أكثر ازاء المستهلكين المصريين الذين يفقدون قوتهم الشرائية «التحدي الأول هو خطر التنفيذ أما الثاني فيتعلق بالتضخم والانفاق».
ويقول شريف الخولي الرئيس المشارك لشركة مينا أت أكتيس، وهي شركة للملكية الخاصة استثمرت 750 مليون دولار في البلاد على مدى السنوات الـ15 الماضية، بما في ذلك أكثر من 200 مليون دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، إن أكتيس تسعى الآن بنشاط للاستثمار في القطاعات المرنة القادرة على الصمود في فترات الركود.
ويضيف «ان الاصلاحات تجعلنا نتحرك بشكل أسرع، ونحن نبحث عن فرص داخل قطاعات المستهلكين والرعاية الصحية. لقد تم اتخاذ الخطوات الأصعب، لكن مما لا شك فيه أنها ستظل فترة صعبة مع التضخم ومعاناة الطبقة الوسطى مع الدخل المتاح»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق