الدانة نيوز -
تشيد شركات التكنولوجيا العملاقة مثل "آبل" مقار كبيرة ومُكلفة بشكل هائل. لكن فكرة إقامة مثل هذه المقار، التي تُبنى على طراز الجامعات، ليست جديدة، وإنما تستخدمها الشركات منذ عقود.
يتذكر كل من قرأ رواية "ذا سيركل" أو (الدائرة) للكاتب دايف ايغرز تلك اللحظة التي زارت فيها بطلتها ماي هولاند للمرة الأولى مكان عملها الجديد الكائن في مقرٍ لشركة تحمل اسم "ذا سيركل" أيضاً، أُقيم على شكل حرم جامعي.
وهناك دار رأس ماي بفعل ما رأته من مساحاتٍ خضراء زُيّنت بالأشجار والنباتات والمزروعات، وما يجاور ذلك من مقصفٍ ومناطق مخصصة للتدريبات الرياضية، فضلاً عن مضيفين منتشرين للترفيه عن الموجودين في المكان. وبالنسبة لهذه الشخصية الروائية، بدا لها هذا مكان عمل مثالياً بالمقارنة بالمقر رمادي اللون للشركة التي كانت تعمل فيها في السابق.
اللافت أن هذه البقعة التي ظهرت ضمن أحداث تلك الرواية واسعة الانتشار تشبه على نحوٍ كبير المقر الجديد لشركة "آبل" الذي يحمل اسم "سفينة الفضاء"، والذي صُمم بدوره على شكل دائرة عملاقة، وأقيم على طراز حرم إحدى الجامعات.
ورغم أن المقار الإدارية المُشيدة على مثل هذا الطراز ربما تكون قد أخذت وقتاً لكي تدخل في نسيج الخيال الشعبي، فإن فكرة تجميع كل موظفيك في مقر واحد ضخم، ُشيّد على طراز حرم جامعة عملاقة، ليست إلا استمراراً لأمر بدأ قبل أكثر من نصف قرن.
المقار الإدارية في الضواحي
المقار الإدارية الأولى التي اتخذت طراز الحرم الجامعي وشُيدت لشركات في الولايات المتحدة صُممت في الأصل لكي يستخدمها علماء ومهندسون في إجراء أبحاثهم ودراساتهم.
وشكلت هذه البقاع - المُصممة على غرار حرم إحدى الجامعات المنضوية تحت لواء ما يُعرف بـ"رابطة اللبلاب" الشهيرة في الولايات المتحدة - مكان عمل آمناً وهادئاً. المعروف أن حرم جامعات هذه الرابطة يتميز بأنه محاطٌ بحدائق غناء أو يقبع وسط باحة رباعية الزوايا، تكسوها الأعشاب والحشائش.
في عام 1942 وفي ولاية نيوجيرسي الأمريكية، أنشأت شركة "أيه تي آند تي" العملاقة للاتصالات أول مقر إداري لشركة يستوحي تصميمه من تصميمات الحرم الجامعي، وأطلقت عليه اسم "بِل لابس" (مختبرات بِل).
وفي خمسينيات القرن الماضي، مضت على الطريق نفسه شركات "جنرال موتورز" و"جنرال إليكتريك" و"جنرال لايف إنشورانس"، إذ أنشأت لنفسها مقار على الطراز ذاته في ضواحي المدن.مصدر الصورةGETTY IMAGESImage captionالمسرح الذي أُطلِق عليه اسم "ستيف جوبز" في المقر الضخم الخاص بـ"آبل" في مدينة كوبترينو بولاية كاليفورنيا والذي تكلف 5 مليارات دولار
وحملت المقار الأولى التي أُقيمت على هذا الطراز أسماء متنوعة، مثل "إندستريال بارك" (الحديقة الصناعية)، "ريسيرش بارك" (حديقة الأبحاث) أو "تكنولوجي بارك" (الحديقة التكنولوجية). وأكدت هذه المسميات وجود صلة بين الصناعة والعلوم من جهة والطبيعة من جهة أخرى.
وفي الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بدت مدن البلاد في الخيال الشعبي في صورة أماكن "خطرة"، تسودها انقسامات عرقية وتغص بالبشر والتلوث معاً. وأصبحت المقار الإدارية المُقامة في ضواحي المدن على شكل حرمٍ جامعي لكلٍ منها نقطةً جذب للأمريكيين بيض البشرة من أبناء الطبقة الوسطى، ممن آثروا ترك مراكز مدنهم المكتظة، والإقامة في ضواحيها خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وكان من مزايا هذه المقار الإدارية الضخمة أنه لم يكن من الممكن الوصول إليها سوى بالسيارة.
محاكاة "الحرم الجامعي"
وبخلاف حقيقة أن المجمعات المصممة على هذا الطراز كانت تشكل بقعةً صالحةً بالفعل لأداء دورها كمقرٍ إداري، فإنها مثلت أيضاً مكانا ثقافياً واجتماعياً، لا يخلو من رمزية في الوقت نفسه. كما أنها بدت ذات مظهر خلاب في الصور، ما يعزز صورة الشركة وقيمتها، سواء لدى وسائل الإعلام أو في أعين موظفيها المحتملين.
وفي كتاب "الرأسمالية الرعوية: تاريخ مقار الشركات الواقعة في ضواحي المدن"، تقول الكاتبة لويز موزينغو إن اتخاذ شركة ما مقراً على شكل حرم جامعي، ربما يكون قد أكسبها ثوباً مؤسساتياً يليق بشركة تتحلى بالنبل والمُثل العليا. فقد أشار اختيار الشركة لأن يكون مقرها شبيهاً بالجامعة، أنها ليست مجرد مؤسسة تسعى إلى الربح، وإنما تعمل كذلك على تحقيق غايات سامية.
كما أعطى هذا التصميم إحساساً بوجود مجتمعٍ ما متصل ببعضه البعض في الشركة. بجانب ذلك، استهدفت المقار الإدارية المُصممة على هذه الشاكلة، والتي تتميز دائماً بمحدودية عدد طوابقها وانخفاض ارتفاعها أن تعزز - على المستويين الرمزي والعملي - روح التواصل والتعاون والتفاعل بين الموجودين فيها، عبر ما يوجد فيها من مرافق ترفيهية وأماكن لممارسة الأنشطة الاجتماعية.
وبوصفها بيئة مكتملة العناصر، أدت مقار الشركات التي أخذت شكل حرم جامعي إلى توسيع نطاق مفهوم مكان العمل، من خلال ما اشتملت عليه من أماكن للترفيه ومقاصف ومناطق للتسوق وللخدمات، ليصبح احتساء مشروباتٍ مثل القهوة، وممارسة رياضات كالتنس، جزءاً من نمط حياة متكامل ترعاه الشركة صاحبة المقر.
وفي مثل هذه المقار، عم شعورٌ ذو طابع أبوي بـ"الأسرة"، ليبدو المكان بمثابة "بيت" مُصمم بعناية للموظفين كي "يعملوا" فيه. ويقول المهندس المعماري غوردون بَنشافت إن الأمر بدا كما لو أن المسؤول الأعلى عن الشركة والمؤسسة "كان منخرطاً فيه بشكل شخصي، ليبني بنفسه قصراً لناسه، بما لا يشكل رمزاً للشركة فحسب، وإنما لسعادته الشخصية أيضاً".مصدر الصورةAT&T ARCHIVES AND HISTORY CENTERImage captionصورة التُقِطت عام 1949 لمقر شركة "أيه تي آند تي" المعروف باسم "بِل لابس" في نيوجيرزي
وتُرْجِمَ ذلك في صورة مقار إدارية تُخصص طوابقها العليا للمكاتب الخاصة بالمديرين من الرجال، بينما تعمل النساء عادة في الطوابق السفلى، التي يكون الواحد منها عبارةً عن غرفة واحدة فسيحة، تضم عدداً كبيراً من الموظفين، دون وجود جدران فاصلة تجعل لكل منهم مكتباً منفصلاً.
المقار الضخمة في القرن الـ 21
وبحلول تسعينيات القرن العشرين، باتت الحاجة إلى إقامة مقار ضخمة للشركات على ذلك الطراز تواجه تحدياتٍ تمثلت في ظهور إمكانية العمل من المنزل (أو من أي مكان آخر) وكذلك في إسناد الشركات لبعض أنشطتها لشركات أخرى بنظام التعهيد، أو تنفيذ هذه الأنشطة خارج البلد الذي تتخذه مقراً لها من الأساس.
ففي ظل بيئة تسودها التكنولوجيا الرقمية بشكلٍ متزايد، وتكتنفها - على نحو متنامٍ - الشكوك من الوجهة الاقتصادية، بات التزام الشركات بإقامة مقارها على مساحات واسعة للغاية أمراً يضع مسؤوليةً على عاتقها، بل وربما يشكل عائقاً لها كذلك.
كما مثلت الخريطة السياسية دائمة التبدل والتغير تحدياً مماثلاً. ومن بين أمثلة ذلك، ما حدث في عام 2014 عندما بحث مصرفا "آر بي إس بانك" و"لويدز بانك" نقل مقارهما من اسكتلندا إلى إنجلترا بتكلفة تبلغ مليار جنيه إسترليني (1.34 مليار دولار) لكلٍ منهما، وذلك بهدف التعامل مع "خطرٍ بات من المتعذر تلافيه أو تجنب وقوعه"، نشأ بفعل الاستفتاء الشعبي الذي أُجري في اسكتلندا بشأن الاستقلال.
كما تثير إمكانية وقوع الكوارث الطبيعية والهجمات الإرهابية أسئلةً بشأن مدى صحة تركيز مؤسسةٍ ما لمقارها في مكانٍ واحد. ولذا ربما يتساءل المرء عن السبب الذي حدا بـ"آبل" لبناء مقرٍ ضخم على شكل حرم جامعي، بتكلفة بلغت خمسة مليارات دولار، في ظل هذه المخاطر.
ويبدو أن مقر "آبل" الجديد يجسد النموذج المثالي لبيئات العمل التي تجعل كل من فيها متساوين. فالمقر الكائن في "وادي السيليكون" صُمِمَ على نحوٍ يلائم القرن الحادي والعشرين، وزُوِدَ بمرافق رياضية وترفيهية ومقاصف تقدم خدماتها بالمجان، بالإضافة إلى منشآت توفر خدمات الرعاية الصحية، بجانب حافلاتٍ تنقل الموظفين منه وإليه.
كما سمحت "آبل" لموظفيها بأن يرتدوا خلال وجودهم في هذا المقر ثياباً غير رسمية الطابع ومتوائمة في الوقت نفسه مع كونهم في مكان عمل، بل وبأن تكون ساعات عملهم مرنة أيضاً. وفي واقع الأمر، اعتبرت دراسة أن إقامة الشركة لـ"مقر على طراز حرم جامعي" يشكل عاملاً حاسماً في اجتذاب الموظفين للعمل فيها وعدم تركهم لها أيضاً.مصدر الصورةALAMYImage captionيشتمل مقر شركة "نوفارتس" العملاقة للأدوية في مدينة بازل السويسرية على مبنى إداري يمتد على مساحة 32 ألف كيلومتر مربع ومن تصميم المهندس المعماري فرانك غيري
فمن شأن ثقافة التجميع والتركيز، التي تُشيعها المقار المستوحى تصميمها من طراز الحرم الجامعي، تعزيز فكرة أن العمل هو متعة في حد ذاته، وأن مكانه ليس بقعة صارمة متجهمة وإنما بيئة غير رسمية الطابع، تضم بين جنباتها موظفين يعملون مدفوعين بإيمانهم بوجود مدينة فاضلة تمثل التكنولوجيا محركاً لها.
لكن الحقيقة ربما ستظل متمثلةً في أن أولئك الموظفين سيبقون عاكفين على أداء أعمالهم وهم جلوسٌ لساعات طويلة أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر.
فضلاً عن ذلك، يمكن أن تصبح مثل هذه المقار الضخمة بمثابة مدن فاضلة يستمتع الموجودون فيها بمزاياها بشكلٍ حصري، في ضوء احتكاكهم المحدود مع المحيطين بهم. ولعل علينا أن نذكر هنا أن الحافلات الخاصة التي تقوم بنقل موظفي "غوغل" إلى مقر الشركة ومنها، تشكل مصدر استياءٍ مجتمعيٍ وسبباً لاندلاع صراعٍ في المجتمع المحلي كذلك.
وعلى غرار الدور الذي لعبته هجرة الأمريكيين بيض البشرة من أبناء الطبقة المتوسطة من مراكز المدن إلى ضواحيها، في أن تظهر إلى الوجود المقار الإدارية التي تأخذ شكل حرم جامعي أفقي الامتداد ومنخفض الارتفاع؛ أدى التحول من البيئات الريفية إلى نظيرتها الحضرية إلى منح بعض هذه المقار شكلاً رأسياً لا أفقياً.
فعلى سبيل المثال، يصل ارتفاع مقر شركة "تينسنت" الصينية لتقديم خدمات الإنترنت إلى 250 متراً فوق سطح الأرض، وذلك في طرازٍ جديد كان اللجوء إليه ضرورياً، بفعل الوجود في مدنٍ ليس فيها الكثير من الأراضي الفضاء.
ولا تقتصر مثل هذه المقار المُصممة على شكل حرم جامعي على شركات التكنولوجيا وحدها، فثمة شركات طيران مثل "كانتاس" ومؤسسات مالية كـ"آيه إن زد" تتبنى هذا التصميم أيضا. كما تُشيّد شركة "نوفارتس" للأدوية - ومقرها سويسرا - مقراً إدارياً من هذا الطراز، يتألف من مبانٍ يصممها مهندسون معماريون بارزون، في إطار مشروعٍ من المقرر الانتهاء منه بحلول عام 2030.
كما أن لدى شركة "تلفونيكا" للاتصالات ومقرها إسبانيا، مقراً على طراز حرم جامعي يضم نحو 14 ألف موظف، وهو ما يفوق عدد سكان 90 في المئة من البلدات الاسترالية.
لكن مثل هذه المقار لا تشكل مجرد مكاتب كبيرة وفسيحة فحسب، فشعبيتها على مدار الخمسين سنة الماضية، تشير إلى أن هذا الطراز وُجِدَ ليبقى. فوجود مقر مركزي على تلك الشاكلة يمنح الشركة أو المؤسسة الفرصة لكي تُجسد - على نحو عملي - ثقافتها والعلامة التجارية الخاصة بها. كما يجعل بوسعها أن تعطي إحساساً بأن لها غاية وغرضاً وهدفاً.
أما بالنسبة للموظفين، فلا تشكل المقار المُصممة على شكل حرم جامعي مجرد مكانٍ للعمل فقط، ولكن مكاناً يريدون البقاء فيه واللعب والمرح، وتناول الطعام والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين كذلك. غير أنهم ربما يكتشفون، تماماً كما فعلت ماي هولاند في رواية "الدائرة"، أن هذه الأماكن ليست بالمدينة الفاضلة، كما كانت تبدو للوهلة الأولى.
نشر هذا المقال للمرة الأولي في مجلة The Conversation، وينشر هنا بموجب "رخصة المشاع الإبداعي".
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق