وفي عصر المعرفة: “جميعنا تلاميذ”
بقلم: د. منصور الجمري
يكثر الحديث عن وصف العصر الحالي بعصر المعلومات، وهذا الوصف رغم صحته إلا أنه لا تزال معانيه غير واضحة. تقسيم العصور – وتوزيع مسميات عليها – نهج اتبعه علماء الاجتماع لتوفير منهجية علمية أو أيديولوجية من اجل فهم حركة التاريخ. كارل ماركس – مثلا – قسم التاريخ (بصورة ايديولوجية – معيارية) الى خمسة مراحل. وقال بأن المرحلة الأولى التي مرت بها الإنسانية هي مرحلة المشاعة، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الإقطاع، وبعدها مرحلة الرأسمالية، وبعد ذلك مرحلة الاشتراكية، وخامس تلك المراحل هي الشيوعية عندما تنعدم الطبقية وتنعدم وسائل سيطرة الانسان على الانسان. هذا التقسيم لم يثبت صحته بل أن هناك ارتدادات من الاشتراكية للرأسمالية، كما حصل في الاتحاد السوفياتي، كما أنه لم يثبت علميته التي آمن بها الاشتراكيون القائلون بالاشتراكية العلمية. فالعامل الاقتصادي والة الانتاج عندما تطورت لم يتجه الناس الى الشيوعية، كما توقع ماركس. هناك تقسيمات أخرى (غير معيارية) للتاريخ، وربما أوسعها تلك التي قسمت المراحل التي مرت بها البشرية بصورة وصفية. بمعنى أنها تنظر إلى ما جرى في التاريخ، وما يجري حاليا، ثم تطرح وصفا له. ومن التقسيمات الوصفية تلك التي تنظر إلى حركة المجتمعات الإنسانية وكيف أنها تطورت مثلا، من العصر الزراعي الذي امتد آلاف السنين حتى منتصف القرن الثامن العشر. ففي منتصف القرن الثامن عشر بدأ عصر جديد، وهو العصر الصناعي، حين اختراع الإنسان الآلة البخارية، ثم توالت الاختراعات الكبرى مثل القطارات، والكهرباء والسيارة. هذا العصر الصناعي استبدل الحقل/المزرعة بالمصنع، واستبدل صاحب الأرض (الأقطاعي)، بصاحب المال (الرأسمالي) الذي يستطيع شراء الماكنة ودفع أجور العمال وجني الأرباح. في العصر الصناعي لم تعد الزراعة تمثل النسبة الهامة في الاقتصاد، بل ان المجتمعات الاقتصادية المتطورة حققت اكتفائها الذاتي من الغذاء وتصدر الباقي الى الخارج ومع ذلك فان الزراعة تمثل حوالي 5% من الانتاج الوطني هذا العصر الصناعي استمر في الدول الصناعية المتطورة حتى منتصف القرن العشرين (قرابة القرنين)، ثم ظهر عصر آخر. هذا العصر يعتمد على المعلومات وتكنولوجيا المعلومات، هذا العصر المعلوماتي استلم القيادة من الماكنة وسلمها للنظم الإلكترونية التي تتحكم بالماكنة وبالمصنع وبكل مجال من مجالات الحياة. عصر المعلومات حول مركز الثقل من المصنع إلى جهاز الكمبيوتر (بعد ان كان العصر الصناعي قد نقل مركز الثقل من الحقل الى المصنع). وبخلاف العصر الصناعي الذي كان يسيطر عليه صاحب المال، فإن الذي يسيطر على الأجهزة الإلكترونية والبرمجة والانظمة المعلوماتية DATABASE SYSTEMS هم أصحاب العقول، وأصحاب العلم وأصحاب الذكاء. هذا التحول دفع الدول المتقدمة للإمساك بتكنولوجيا المعلومات التي حولت العالم إلى قرية صغيرة يعرف بعضها الآخر. العصر الصناعي انتج لنا “الدولة القومية الحديثة” القائمة على سيادة الحدود الجغرافية, اما عصر المعلومات فأنه لايعترف بالحدود الجغرافية (واصبح يهدد مفهوم الدولة القومية) لان خطوط الانترنت ولاقمار الصناعية تعبر الحدود الجغرافية دون الحاجة لرخصة او لجواز سفر. العصر الصناعي اعتمد على التجارة التي تنتقل بين البلدان عبر الخطوط البرية والبحرية والجوية. اما عصر المعلومات فقد اخترع خطوطا الكترونية تسبق سرعتها وامكانياتها الخطوط البرية والبحرية والجوية. بل ان خطوط التجارة التقليدية لن تستطيع اداء دورها في المستقبل القريب الا اذا اعتمدت على خطوط التجارة الالكترونية. انتقال الثقل من صاحب المال إلى صاحب العلم والذكاء. ومن يمتلك الذكاء وادوات وتكنولوجيا المعلومات خلق ولا زال يخلق مفاهيم جديدة في عالم اللغة والاقتصاد والفكر والسياسة والمجتمع.
ماهي المعلومات ومافرقها عن المعرفة؟
لتوضيح بعض المفاهيم الملازمة، فإن الإشارة لعصر المعلومات ليس وصفا دقيقا للعصر الذي نعيشه. بداية، فإن الإنسان يستحصل العلم من خلال رموز (DATA) يتلقاها باستمرار. هذه الرموز كثيرة ومتفرقة وليست مفهومة بسهولة. عندما نلخص الرموز (حروف وارقام وشواهد الخ) ونحولها إلى معاني معينة فإنها تتحول إلى معلومات (INFORMATION) . هذه المعلومات لا تتحول إلى معرفة (KNOWLEDGE) إلا إذا استفاد منها الانسان في عملية اتخاذ قرار. والمعرفة المتطورة والدقيقة هي اعلى درجات المعرفة ويطلق عليها حكمة (WISDOM) . إن جهاز الكمبيوتر سهل عملية تجميع وتخزين وتحويل الرموز إلى معلومات. ولكن جهاز الكمبيوتر لا يخلق المعرفة. المعرفة يكونها الإنسان ويطورها بالاستفادة من الأجهزة الإلكترونية (وايضا بواسطة الاساليب التقليدية الاخرى). الحديث عن المعرفة موضوع قديم- جديد. فالمعرفة الإنسانية اليوم أصبحت أهم عامل في الاقتصاد والسياسة وغيرهما. وما لم نستطع فهم المعرفة وطرق تكوينها فإننا قد نقع ضحية لبحر من المعلومات الهائجة والمتزايدة مع الأيام. الفلاسفة يقولون بأن عملية إنتاج المعرفة الانسانية تتم بواسطة أسلوبين أساسيين من الاستخدام العقلي: الأسلوب الأول، هو الاستنباط، والأسلوب الثاني هو الاستقراء. وهناك أساليب أخرى لانتاج المعرفة الانسانية (اي تمكين الانسان من اتخاذ قرار في مجالات حياته المختلفة) ولكنها قائمة او تعتمد في جزء رئيسي منها على خليط من هذين الاسلوبين الأساسين. وكمثال على تلك المناهج: الجدلية النظرية (الديالكتيك)، والجدلية المادية، والاستشراق القلبي، ونظرية الانتزاع (انتزاع المفاهيم الثانوية من الاولية)، والوجودية Existentialism ، والنفعية Utilitarianism ، والبراجماتية (الوصول الى القرار الصحيح او الاقل خطأ عبر التجربة الملائمة للظروف الزمانية والمكانية) الخ . . الا ان جميع هذه المناهج تعتمد في جوانب اساسية منها على الوسيلتين الاساسيتين وهما الاستنباط والاستقراء. الاستنباط يمكن الإنسان من استنتاج المعرفة بالاعتماد على مفردات منطقية مسبقة. مثلا، لو قلنا بأنه “لا يمكن الوصول إلى تلك الجزيرة إلا عبر البحر، إذ لا توجد خطوط جوية أو برية”. ثم نقول “فلان ذهب إلى تلك الجزيرة”. فإنه بالإمكان الاستدلال أن “فلان ذهب إلى الجزيرة عبر البحر”. هذا المثال البسيط يوضح معنى الاستدلال وطريقته في إنتاج المعرفة. فلقد عرفنا بأن فلان ذهب الجزيرة عبر البحر لأن لدينا “مقدمات” منطقية وثابتة دللت على ذلك. هذا الأسلوب في إنتاج المعرفة سيطر على مناهج التفكير منذ فلاسفة الأغريق (اليونانية) قبل الميلاد ومتى القرن السادس عشر الميلادي. وقد طور فلاسفة المسلمين المناهج اليونانية وادخلوا الجانب التجريبي (الاستقراء) ، الا ان ذلك التطوير توقف لاحقا نظرا للظروف السياسية التي جمدت الفكر وطرق العلم. ولذا فان انتاج المسلمين الفلسفي والعلمي انتقل الى اروبا قبل قرابة 500 – 600 عام عبر اسبانيا وفرنسا ولاحقا ايطاليا (وهي مناطق قريبة من العالم الاسلامي) . الأسلوب الثاني في إنتاج المعرفة هو الاستقراء. الاستقراء يقوم على التجربة الملموسة وعلى استقراء النتيجة من عدد كبير من المشاهدات المحسوسة التي يمكن للإنسان قياسها ودراستها وإحصائها. الاستقراء هو الأسلوب التجريبي الملموس والمحسوس والقائم على تحصيل العلوم من خلال التجربة والممارسة. ولذا فإن الاستقراء يعتمد على العلوم الطبيعية والاجتماعية – وعلى مفاهيم الإحصاء التي تتحدث عن الاحتمالات. فالاحتمال يعني ان تصل الى نتيجة معينة تقول (مثلا ) أنك “تحصل على هذه النتيجة لو توفرت لديك معطيات معينة هي…”. هذا الاستقراء يتطور مع تطور تجارب الإنسانية في مختلف العلوم. ومنذ إن ركزت المناهج العلمية على الجانب الاستقرائي في إنتاج المعرفة (دون إغفال جانب الاستنباط بطبيعة الحال) فإن عملية إنتاج المعرفة تطورت بصورة متلاحقة وخلقت لنا العصر الحديث. العملية الاستقرائية تعتمد أساسا على مراقبة وتسجيل الملاحظات حول ظاهرة طبيعية او اجتماعية معينة. ثم القيام بتعريف وتحديد معالم الظاهرة أو المسألة قيد الدراسة. وثم بعد ذلك اقتراح أطروحة أو نظرية لتفسير تلك الظاهرة. ثم اختبار تلك الأطروحة تجريبيا أو مختبريا او ميدانيا، ثم عرض وتدقيق جميع المعطيات والظروف والعوامل والمصادر التي أحاطت بتلك التجربة لكي يتمكن علماء اخرون من تمحيص النتيجة.
عصر المعرفة
إذا كانت عملية إنتاج المعرفة تعتمد على وجود المعلومات بصورة وافرة، وإذا كانت عملية الاستقراء تعني التجريب والجانب الملموس أكثر من أي شيء آخر، فإن الملاحظة الهامة هي أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن تلخيصها كما يتم تلخيص الظواهر الطبيعية. فالنشاط السياسي – مثلا – يعتمد على الانسان وكيفية ادارة شئونه. والانسان ليس كالاشياء. “فالآشياء” الجامدة والحيوانات والنباتات يمكن إجراء التجريب وأساليب المختبر بصورة علمية صارمة، أما الإنسان فليس وسيلة لإجراء التجارب. إنه الهدف الذي من أجله تجرى التجارب. ولذا فإن المفكرين يطروحون مفهوم الإدارة المعرفية للشؤون الإنسانية والتي تعتمد على الجوانب الثقافية والمؤثرات السلوكية على الإنسان. بمعنى اخر انها تتعامل مع “الذكاء الاجتماعي” الذي يتكون من مجموعة انسانية تتعامل مع بعضها الاخر وتشترك في ادارة شئونها عبر وسائل انسانية لائقة. الرموز التي تتحول إلى معلومات عبر المشاهدة والتحليل وعبر الخبرة المتراكمة، جميعها مؤشرات لوجود المعرفة العملية. المعرفة يمكن تلخيص كثير منها في معادلات، قواعد، قوانين، قاموس مهنة. هذه هي المعرفة الظاهرة التي يمكن نقلها دون مشكلة. ولكن المعرفة الاهم هي التي يستنبطها الإنسان، وهي غير قابلة للكتابة أو التوثيق. هذه المعرفة هي خبرة داخل الممارسة الإنسانية لكل واحد منا، ولا وسيلة لاكتسابها أو الاستفادة منها إلا بالتعامل مع بعضنا الآخر. إن عصر المعلومات هو عصر وجود وسائل تكنولوجيا المعلومات، كالكمبيوتر والأقمار الصناعية والهواتف النقالة وغيرها. إلا أن هذه جميعها لا تكون عصر معرفة دون وجود العامل الإنساني الحر والمتمكن من ارادته والمستمر في ابداعه. ولذلك فإن إضافة الإنسان المحترف والمتمرس والفاهم لعصر المعلومات هو الذي يخلق عصر المعرفة. ولتوضيح أهمية الجانب المعرفي في حياة اليوم نشير إلى تقرير دولي صدر في العام 1996 عن منظمة OECD يقول بأن أكثر من نصف الإنتاج في الدول المتقدمة خلال السنوات القليلة الماضية اعتمد على الاقتصاد المعرفي knowledge-based economy . أي ذلك الاقتصاد القائم على العامل الإنساني المتداخل والمسيطر والمستخدم لتكنولوجيا المعلومات. وهناك فرق رئيسي بين الذي يشغل هذا الاقتصاد المعرفي ومع الفرد الذي اعتمد عليه الاقتصاد الصناعي. الاخير اعتمد على صاحب رأس المال وعلى العامل الذي يكدح من أجل الحصول على معاش يومي او اسبوعي أو شهري. أما الاقتصادي المعرفي فيعتمد على أصحاب المهارات (وليس أصحاب الأموال)، وأصحاب العقول العملية، وهؤلاء ليسوا عمال أو موظفين، إنما هم يشتغلون في المعرفة (Knowledge-Worker) . ومع استمرار التطور فان كثير من المشغلين للمعرفة سيملكون الشركات التي يديرونها او انهم سيتحولون لمستشارين غير مرتبطين بشركة واحدة فقط. في عصر المعرفة يصبح الجميع تلاميذ لبعضهم الآخر وليسوا أساتذة لبعضهم الآخر. إن نمط الأستاذ- التلميذ ربما كان يتناسب مع عصور مضت عندما كانت المعلومات قليلة ووسائل الحصول على المعلومات ممنوعة او غير متوفرة للجميع. أما في عصر المعرفة فإن المجتمعات الناجحة هي تلك التي تفتخر بأنها تلميذة وانها لاتشبع من الازدياد العلمي. وحتى على المستوى الاقتصادي هناك المستشارون الذين يبيعون خدماتهم لتحويل الشركات التقليدية إلى شركات “تلميذة” (Learning Organisations) . التلمذة يعني أن الجميع ينمو مع ازدياد حجم وعمق المعلومات المتوفرة في عالم اليوم. والتلمذة تعني أن الجميع يتعلم وأن الإنسان لا يتوقف عن تلمذته حتى موته. هذا ما وصلت إليه مجتمعات متقدمة تسيطر على عالم اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق