في عام 1998، شهدت العملات في العديد من الدول الناشئة، بدءا من البات التايلاندي وانتهاء بالروبل الروسي، تدهورا حادا، الأمر الذي تسبب بعدم قدرة هذه الدول على سداد قروضها، وترتب على ذلك "هروب جماعي للرساميل الأجنبية" من تلك الدول، فهل يعيد التاريخ نفسه فيما يتعلق بتركيا؟
منذ بداية الصيف الحالي، تعاني الليرة التركية من الهبوط وتراجع قيمتها، وجرّت معاناتها الاقتصادي التركي بشكل عام معها، وترتب على ذلك زيادة التضخم في البلاد.
فبعد أن وصلت معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي إلى 7 في المئة في العام 2017، عاد ليتراجع إلى 4 في المئة هذا العام، وارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة إلى حد كبير.
وفي الأثناء، أخذت الشركات الكبرى في تركيا والحكومة في أنقرة تعاني صعوبات في سداد خدمات الدين الخارجي، فيما تهوي قيمة الليرة بشكل حاد، فارتفع الدين الخارجي بصورة حادة، في حالة مماثلة لما حدث في الأرجنتين وجنوب أفريقيا.
التوتر الأميركي التركي
في ظل هذه الأوضاع، يلقي التوتر في العلاقات الأميركية التركية بظلاله على الاقتصاد التركي، فيما يواصل رجب طيب أردوغان إصراره على "قيادة بلاده نحو الهاوية"، كما أشارت صحيفة "نيويورك بوست" الأميركية.
لقد وصل أردوغان إلى السلطة بموجب وعود بإرساء حكومة قوية وشفافة ورخاء اقتصادي، وهو ما حققه بالفعل في سنواته الأولى، غير أن هوسه بالسلطة والمزيد من السلطات، بالإضافة إلى محاولته التخلص من المنافسين، عملت كلها على تهميش إنجازاته السابقة.
وبصرف النظر عن احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون وما تبعه من تداعيات في العلاقات الأميركية التركية، فإن طريق أردوغان نحو الرخاء يبدو أنه يتجه إلى طريق مسدود، فحجم الدين الخارجي لتركيا يصل إلى 217 مليار دولار، وتعاني تركيا من أكبر عجز تجاري تشهده أي دولة ناشئة عبر التاريخ.
وارتفعت نسبة التضخم بشكل صاروخي، حتى قبل أزمة العملة التركية الأخيرة، حيث فقدت أكثر من نصف قيمتها في الشهور القليلة الماضية.
ترافق ذلك مع فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على تركيا لرفض أردوغان إطلاق سراح القس الأميركي، بينما يهدد بمزيد من العقوبات.
رد أردوغان على خطوات ترامب بمقاطعة هواتف آيفون ومنتجات إلكترونية أميركية، وهي الخطوة التي تعتبرها بعض وسائل الإعلام الأميركية "غير ذات معنى".
وفيما يعزز أدروغان من سلطاته، منذ بداية المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، والتي اتهم فيها رجل الدين التركي فتح الله غولن، بالوقوف وراءها، يعاني الشعب التركي، وسيظل يعاني طالما أنه مصرّ على العناد الذي يسير فيه سياسيا واقتصاديا، لكن أردوغان نفسه يبدو أنه لا يهتم بذلك أبدا، ومن الواضح أنه شرع في الخطوات الأولى لتدمير اقتصاد بلاده، حسب الصحيفة الأميركية.
السقوط من القمة
تتمتع تركيا بموقع استراتيجي بين آسيا وأوروبا ومزيج الثقافات فيها بعدد سكانها البالغ 80 مليون نسمة، وغالبيتهم من الشباب المتعلمين، وذات الطبيعة العلمانية للنظام، ينبغي أن تكون من بين أكثر الأسواق الناشئة جاذبية للاستثمار، وهو ما كان كذلك إلى عهد قريب.
فمنذ بداية الألفية الثالثة، كان الاقتصاد التركي ينمو بوتيرة متسارعة وبلغ النمو الاقتصادي 3 أضعاف ما كان عليه سابقا، الأمر الذي أدى إلى موجة كبيرة من التوجه الاستهلاكي للشعب التركي، بالإضافة إلى حركة نمو عمراني هائلة، كما ذكرت صحيفة التليغراف البريطانية.
ونتيجة لذلك شهدت الاستثمارات الخارجية تدفقا هائلا، الأمر الذي أدى إلى نشوء مشروعات مليارية (تكلفة طريق أزمير إسطنبول بلغت 11 مليار دولار) وخط سكة حديد السريع بين أنقرة وإسطنبول، بالإضافة إلى مشروع بناء أكبر مطار في العالم.
ورغم ذلك كله، بدأت غيوم عاصفة تتراكم وتحوم في سماء الاقتصاد التركي، فبدت الجرأة وكأنها غطرسة، وارتفعت مستويات الدين بصورة خيالية، فيما ظلت التجارة تعتمد بصورة كبيرة على منطقة اليورو المتعثرة، بينما لم تساعد الأوضاع المتردية وغير المستقرة في كل من الجارتين الجنوبيتين سوريا والعراق، الاقتصاد التركي.
كذلك لم تساعد "سلطوية" أردوغان المتزايدة، خصوصا ما ارتكبه من أخطاء اقتصادية جوهرية، مثل تدخله في سياسات البنك المركزي، وفاقم الأمر سياسته ضد الفائدة المرتفعة، الأمر الذي كان بمثابة جرس إنذار للمستثمرين المحليين والخارجيين على السواء.
في الأثناء كان التضخم يرتفع بصورة كبيرة، حيث بلغ حاليا نحو 16 في المئة، وبينما كانت الاستثمارات الخارجية تهرب من البلاد، كانت تبيع الليرة التركية وتشتري الدولار من الأسواق.
وجاءت عقوبات ترامب لتصب الزيت على النار، فيما ساهم "السجال الاقتصادي الأميركي التركي" في تردي قيمة الليرة، بحيث فقدت منذ بداية العام الحالي نحو 35 في المئة من قيمتها مقابل الدولار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق