هشام محمود من لندن
منذ أن باتت شركات التكنولوجيا العملاقة لاعبا رئيسا في ساحة الاقتصاد العالمي، وعديد من الاقتصاديين يحذرون من مغبة تأثير هذا العملاق التكنولوجي على الاقتصاد الدولي وتحديدا المنظومة المالية.
في المقابل، يعد أنصار شركات التكنولوجيا أن تلك التحذيرات مفرطة في قلقها، وتهدف إلى تحميل شركات التكنولوجيا أخطاء النظام المالي العالمي.
دخول كريستين لاجارد المدير العام لصندوق النقد الدولي على خط الجدل الدائر بشأن العلاقة بين شركات التكنولوجيا والنظام المالي العالمي، جدد النقاش مرة أخرى حول هذا الموضوع، وأثار عاصفة من ردود الأفعال التي هيمنت على ساحة النقاش الاقتصادي العالمي.
وحذرت لاجارد المسؤولة عمليا عن إحدى أهم المنظمات المالية في العالم، بل ربما أهمها جميعا، بشكل واضح لا لبس فيه، من أن شركات التكنولوجيا العملاقة قد تسبب خللا كبيرا في النظام المالي العالمي. وبررت المسؤولة الدولية موقفها بأن عددا قليلا من تلك الشركات، بات قادرا على التحكم في قواعد المعلومات الرئيسة، وكذلك في برامج الذكاء الاصطناعي، ومن ثم في ترتيب عمليات الدفع وتسوية الحسابات على النطاق الكوني.
إلا أن تحذيرات لاجارد قوبلت بانتقادات عنيفة من قبل اقتصاديين وخبراء، لاعتقادهم بأن المسؤولة الدولية تسعى إلى إلقاء الكرة في ملعب الآخرين، وتحميلهم مسؤولية الخلل المتنامي في المنظومة المالية الدولية.
ويعتقد بول كنجسلي الباحث والاستشاري في معهد الدراسات الاقتصادية التابع لجامعة بروملي، بأن مخاوف لاجارد مبالغ فيها، وأن الخلل الراهن في النظام المالي العالمي يصعب تحميله لطرف واحد، وإنما حصيلة مجموعة من العوامل الدولية، ومساهمة شركات التكنولوجيا الحالي والمستقبلي فيه هامشي وضعيف.
ويوضح لـ"الاقتصادية"، أن الابتكار التكنولوجي يحمل وعودا كبيرة بتوفير الخدمات المالية، سواء تمثل ذلك في القدرة على زيادة الوصول للأسواق، أو مزيد من عروض المنتجات المالية، أو السرعة في الأداء مع خفض التكاليف للعملاء، وهذا يوجد مزيدا من المنافسة والتنوع في عمليات الإقراض والمدفوعات والتأمين والتجارة، وشركات التكنولوجيا من هذا المنطلق تجعل النظام المالي أكثر كفاءة ومرونة".
ويستدرك كنجسلي قائلا، إن"شركات التكنولوجيا العملاقة حتما وبشكل مباشر أو غير مباشر ستؤثر في الاستقرار المالي من خلال تغيير هيكل السوق في الخدمات المالية، وربما يحدث ذلك بعض الارتباك خاصة مع دخول شركات التكنولوجيا قطاع البنوك، وذلك لأن النظام المالي الدولي ما يزال يعمل وفقا لقواعد عمل تقليدية، وشركات التكنولوجيا العملاقة لا تقف مساهمتها عند حدود طرح أساليب عمل أكثر حداثة، ولكن الأهم أنها تطرح منتجات مالية غير تقليدية، قد يكون لبعضها آثار ضارة على المؤسسات المالية التقليدية، نتيجة استبدال أو إضعاف علاقة العملاء مع البنوك على سبيل المثال والتحول إلى شركات التكنولوجيا العملاقة، وهذا لا يمثل إضرارا بالنظام المالي العالمي، ولكن يمثل تحولا إلى هياكل أكثر حداثة وتنوعا داخل المنظومة المالية الدولية".
إلا أن وجهة النظر تلك لا تبدو مقنعة لقطاع ملحوظ من الخبراء الاقتصاديين الداعين إلى تعامل أكثر صرامة مع شركات التكنولوجيا الكبيرة، خاصة في ظل اعتقاد سائد لدى عديد من الحكومات بأن تلك الشركات باتت نموذجا سيئا فيما يتعلق بمساهماتها الضريبية.
وتزامنت تحذيرات لاجارد مع اجتماع وزراء مالية دول قمة العشرين في اليابان، الذي احتل موضوع سبل سد ثغرات النظام الضريبي لشركات الإنترنت العملاقة مثل "جوجل" و"فيسبوك" موقعا مهما على جدول الأعمال، وذلك عبر فرض الضرائب على تلك الشركات في البلدان والمناطق التي تحقق فيها أرباحا، وليس في الدول التي تقع فيها مقارها الرئيسة.
ريكس إكنسون يشير إلى قضية الضرائب الخاصة بشركات التكنولوجيا العملاقة، باعتبارها تمثل جانبا مهما من الاضطرابات التي يمكن أن تحدثها شركات التكنولوجيا في النظام المالي، ولكنه يعتقد بأن القضية الأكثر خطورة هي ما يصفه بالعلاقة الملتبسة بين تلك الشركات والقطاع المصرفي، ويعد أن تلك الشركات وعبر استخدام قواعد البيانات الكبيرة الخاصة بعملائها، وما لديها من موارد مالية ضخمة، يمكنها طرح منتجات مالية أفضل وأكثر جاذبية للعملاء، ما يوجد تحديا فريدا يتجاوز فاعلية النظام المالي إلى استقراره في حد ذاته.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن أخطر ما تطرحه شركات التكنولوجيا من تحد للنظام المالي العالمي التقليدي، يتمثل في أن قدرتها الاحتكارية أعلى بكثير مما هو متاح للبنوك باعتبارها مؤسسات مالية تقليدية، وقد أشارت لاجارد في تحذيرها إلى شركتين فقط تسيطران على أكثر من 90 في المائة من سوق المدفوعات عبر الهواتف المحمولة في الصين، وهذا الجانب الاحتكاري المدعوم بالقدرة الإبداعية لشركات التكنولوجيا والقدرات المالية الهائلة لديها، إضافة إلى معرفة أكثر دقة باحتياجات العملاء من خلال بنوك المعلومات لديها، يجعلها أكثر قدرة في الهيمنة على الأسواق وتوجيهها في الاتجاه الذي يحقق مصالحها".
وسط هذا القلق من تأثير شركات التكنولوجيا العملاقة على النظام المالي العالمي خاصة في شقه المصرفي، يبرز تيار ثالث من الاقتصاديين يعتقد بأن دخول شركات التكنولوجيا بكثافة في مجال الخدمات المالية سيؤدي إلى هزات ملحوظة في المنظومة المالية، ولكنها ستسفر في نهاية المطاف عن ولادة منظومة جديدة تتضمن قدرا من التعاون والتكامل بين الطرفين.
الدكتور تشارلي فيرث أستاذ الأنظمة البنكية في جامعة ليدز، يعتقد بأنه من الصعب الجزم الآن بمن ستكون له القيادة في المنظومة المالية العالمية الجديدة الآخذة في التبلور، فشركات التكنولوجيا يمكنها أن تقود إذا أفلحت في طرح منتجات مالية أقل تكلفة للعملاء، لكن الخبرات المالية المتاحة للبنوك التي تعود لقرون، والدعم الكبير الذي تحظى به من الحكومات، يجعل من الصعب على شركات التكنولوجيا أن تحتكر المشهد بمفردها.
ويقول فيرث لـ"الاقتصادية"، إنه "من المؤكد بحلول منتصف القرن الحالي سنشهد منظومة مالية عالمية جديدة، بفضل الوافدين الجدد إلى مجال الخدمات المالية، فشركات التكنولوجيا الكبيرة ستغير المشهد، وهو ما نشهده في الولايات المتحدة حاليا، حيث باتت بعض شركات التكنولوجيا تقدم خدمات التأمين والإقراض وتتوسع في إدارة الحسابات والأصول".
ويضيف فيرث، أن "المشكلة ليست عند شركات التكنولوجيا، ولكن في الأنظمة البنكية التي تعاني من ضغوط شديدة، فالمنافسة المتزايدة تمارس ضغطا على ربحية المؤسسات البنكية، وهذا قد يدفع رؤساء مجالس إدارات البنوك للمخاطرة في اتخاذ القرارات من أجل الحفاظ على هوامش الربحية".
ويشير فيرث إلى أن "عديدا من البنوك ومع إدراكها للتغيرات التي تشهدها أسواق المال العالمية، بدأت عمليا في التخطيط لشراكة مع عملاقة التكنولوجيا، ويبدو أن تلك هي الإرهاصات الأولى للكيان المقبل في عالم الأنظمة المالية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق