بقلم المصطفى ولد سيدي محمد
لم يلبث قيام منظمة التجارة العالمية أن غير ملامح الاقتصاد العالمي, من خلال ربط علاقات ومصالح تجارية دولية متشابكة بين عدد من البلدان. ومع ميلاد هذه المنظمة التي تضم 142 دولة, اكتملت مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي الحديث الذي يتسم بهيمنة النظام الرأسمالي بمبادئه وآلياته.
وتسعى الدول المنتمية إلى هذه المنظمة للاستفادة من تحرير التجارة وحركة رؤوس الأموال الدولية. وقد سبقت ميلاد هذه المنظمة مفاوضات عسيرة برهنت على التناقضات القائمة بين الدول الصناعية الكبرى الباحثة عن أسواق لتصريف السلع والخدمات التي تنتجها والدول النامية التى تسعى لحماية اقتصاداتها من المنافسة الحادة, وتغذية خزينتها بعائدات الضرائب والرسوم الجمركية على السلع الواردة واعتبار المنظمة جهازا جديدا لتمرير سياسات القوى العظمى المهيمنة.
وقد كرست هذه المنظمة حدة العلاقة اللامتكافئة بين الشمال المصنع، حيث تنتج أطراف الثالوث التي تشكل دعائم الاقتصاد العالمي (أميركا الشمالية، أوروبا، اليابان) حوالي 87% من الواردات العالمية وأكثر من 94% من الصادرات العالمية من المواد والسلع المصنعة, والجنوب الذي مازالت أغلب بلدانه تعاني من مشاكل مزمنة مثل الفقر والبطالة والمديونية الخارجية الخانقة وعدم الاستقرار السياسي.. إلا أن تفاقم هذا الوضع ينذر بالكارثة، خصوصا بعد أن بدا واضحا أن نمو واستقرار البلدان النامية شرط أساسي لاستقرار الاقتصاد العالمي.
إن انعقاد مؤتمر وزراء المنظمة المزمع في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بالدوحة (قطر) ونجاحه بعد مؤتمر سياتل وما صاحبه من ضجة قد يسهم في تحسين أوضاع الاقتصاد العالمي، إلا أن ذلك رهين بنجاح وتقدم المفاوضات متعددة الأطراف والمتعلقة بتحرير قطاعات جديدة مثل الزراعة والخدمات.. كما أن تحسن أداء الاقتصاد العالمي يبقى مشروطا بما سيؤول إليه معدل نمو الاقتصاد الأميركي خصوصا بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على واشنطن ونيويورك.
مدخل
إن أبرز سمات الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن تتمثل في حركة السلع والخدمات ورأس المال والمعلومات والأيدي العاملة عبر الحدود الوطنية والإقليمية، وهي مرتبطة بتطور تكنولوجيات الاتصال التي أدت إلى جعل العالم يبدو وكأنه قرية صغيرة.
وهذه المميزات تتفق مع ما تدعو إليه منظمة التجارة العالمية (WTO) وتتناسق مع معطيات النظام الدولي الجديد الذي يتسم بهيمنة النظام الرأسمالي بمبادئه وقواعده على الاقتصاد العالمي.
وقد تميز عقد التسعينيات من القرن العشرين بانهيار الاتحاد السوفياتي وتعاظم نشاط الأسواق المالية وقيام تكتلات اقتصادية كبرى. وبقيام منظمة التجارة العالمية اكتمل المثلث الذي تشكل أضلاعه مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي (صندوق النقد الدولي IMF, والبنك الدولي WB, ومنظمة التجارة العالمية). وقد عرفت المنظمة بأنها الإطار المؤسسي الموحد لإدارة جميع الاتفاقيات الشاملة لجولات الأورغواي وللنظام التجاري المتعدد الأطراف.
”أبرز سمات الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن تتمثل في حركة السلع والخدمات ورأس المال والمعلومات والأيدي العاملة عبر الحدود الوطنية والإقليمية، ”
وتهدف المنظمة إلى تقوية الاقتصاد العالمي من خلال تحرير التجارة من جميع القيود، ورفع مستوى الدخل القومي الحقيقي للدول الأعضاء، وزيادة الطلب على الموارد الاقتصادية والاستغلال الأمثل لها، وتوسيع وتسهيل الوصول إلى الأسواق الدولية، والمساعدة في حل المنازعات بين الدول والإدارة الآلية للسياسات التجارية، والتعاون مع المؤسسات الدولية الأخرى (IMF وWB) لتحقيق الانسجام بين السياسات التجارية والمالية والنقدية (1). وقد شهد المجتمع الدولي اهتماما متناميا بالتحولات الرئيسية التي ميزت الاقتصاد العالمي، بعد أن تسارعت وتيرتها على نحو غير مسبوق خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بعد قيام منظمة التجارة العالمية التي تعتبر أداة ووسيلة لها أهميتها في تنظيم وتشجيع التجارة الدولية وبالتالي إسهامها في عولمة الاقتصاد.
اهتمام المفكرين
وقد حظي موضوع عولمة الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة بجانب هام من اهتمامات المفكرين الاقتصاديين والسياسيين في جميع أنحاء العالم بعد أن بدا واضحا للعيان أن التطورات الاقتصادية السريعة والمتلاحقة التي يشهدها عالمنا المعاصر أدت إلى نظام اقتصادي جديد أعاد ترتيب الأولويات والأيدولوجيات الاقتصادية للدول، وإلى بروز منظومة من العلاقات والمصالح الاقتصادية المتشابكة التي ساهمت في قيام نظام اقتصادي عالمي أكثر تعقيدا وأثر تأسيس المنظمة في هذا التعقيد والتشابك.
وفي هذا الإطار تندرج هذه الورقة التي تحاول رصد أهم التحولات التي شهدها الاقتصاد العالمي منذ قيام المنظمة وعلاقة التأثير والتأثر (الجزء الأول) ودراسة العلاقة بين الشمال والجنوب في ضوء هذه التغيرات (الجزء الثانى)، وفي الأخير نحاول التعرض لمسألة الانضمام إلى المنظمة من خلال تحليل مزايا ومخاطر العضوية ومعوقاتها.
أولا: التحولات الرئيسية للاقتصاد العالمي في ظل
منظمة التجارة العالمية
ثانيا: التكتلات الإقليمية في مواجهة عولمة الاقتصاد
ثالثا: إشكاليات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية
أولا: التحولات الرئيسية للاقتصاد العالمي
في ظل منظمة التجارة العالمية
بعد التوقيع على الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية (GATT)، التي تحولت ابتداء من 15 أبريل/ نيسان 1994 إلى منظمة التجارة العالمية، من طرف دول عديدة بما تدعو إليه من إزالة للحواجز الجغرافية والجمركية أمام حركة التجارة بين الدول, وخارطة الاقتصاد العالمي في تغير دائم.
إن ميلاد هذه المنظمة بعد سنوات عديدة من المفاوضات الشاقة, جاء ثمرة للأوضاع التي ميزت العالم منذ بداية التسعينيات والمتمثلة في العولمة وتشابك الاقتصادات وارتباط مصالح العديد من الدول النامية بالدول المتقدمة والشركات الكبرى العابرة للقارات (أو متعددة الجنسيات) وتنامي دور المؤسسات الدولية في رسم مسار التنمية للدول النامية والتحكم فيه، هذا بالإضافة إلى سعي دول الشمال الغنية للسيطرة على النصيب الأوفر من الاقتصاد العالمي عبر شركاتها وفروعها المنتشرة في أنحاء العالم، والتي أصبحت تتحكم في جزء كبير ومتزايد من عمليات الإنتاج وتوزيع الدخل العالمي, وكذلك سعي تلك الدول لحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ولو على حساب دول الجنوب.
وقد عجل هذا الواقع ظاهرة العولمة، وإن كان البعض يرى أنها ظاهرة قديمة إلا أن البداية الفعلية كانت مع اكتمال أسس النظام الدولي الجديد مع قيام منظمة التجارة العالمية.
وتعتبر العولمة ظاهرة شمولية لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، إلا أن عقد التسعينيات أبرز ميلاد ما يمكن أن نسميه "العولمة المالية" والتي يرى البعض أنها أبرز تجليات ظاهرة العولمة, حيث زادت رؤوس الأموال الدولية بمعدلات تفوق بكثير معدلات نمو التجارة والدخل العالميين.
وقد حظيت الأبعاد المختلفة للعولمة بالكثير من الدراسة والتحليل غير أن البعد المالي بقي منقوصا –إن لم نقل مهملا- من التشخيص والبحث.
وقد شهد العالم أخيرا أحداثا هامة مثل الأزمات المالية الخانقة التي تعرضت لها المكسيك (94/1995)، ودول جنوب شرق آسيا (1997) التي كانت نموذجا يحتذى به، والبرازيل (1998)، وروسيا (1999)، وميلاد العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" وما نتج عن ذلك من تأثيرات على الاقتصاد العالمي ألقت بظلالها على اهتمامات الباحثين والجامعيين.
إن ظاهرة العولمة المالية بما تعكسه من زيادة حركية في تنقل رؤوس الأموال قد تحمل معها مخاطر عديدة وهزات مدمرة، كما أنها قد تجلب معها فوائد ومزايا -إن أحسن التصرف فيها- تعود بالنفع على الاقتصاد العالمي بشكل عام والدول النامية بشكل خاص، لأن نمو هذه الأخيرة أصبح شرطا ضروريا لتحقيق الاستقرار والنمو للاقتصاد العالمي ولتضييق الهوة بين أطرافه.
لهذا فإن الإلمام بمدى نجاعة هذه العولمة للبلاد النامية ومخاطرها, يستوجب الوقوف عند العوامل المسببة لتعاظم هذه الظاهرة:
1- العوامل المفسرة للعولمة المالية:
ويمكن إيجاز هذه العوامل في النقاط التالية (2) بغض النظر عن الترتيب:
- صعود الرأسمالية المالية:
ونعني به الأهمية المتزايدة لرأس المال التي تتجسد في صناعة الخدمات المالية بمكوناتها المصرفية وغير المصرفية، ونتيجة لذلك أصبح الاقتصاد العالمي تحركه مؤشرات ورموز البورصات العالمية (داوجونز, ناسدك, نيكاي, داكس, كيك 40) والتي تؤدي إلى نقل الثروة العينية من يد مستثمر إلى آخر دون أي عوائق سواء داخل البلد الواحد أو عبر الحدود الجغرافية.
”إن ظاهرة العولمة المالية بما تعكسه من زيادة حركية في تنقل رؤوس الأموال قد تحمل معها مخاطر عديدة وهزات مدمرة، كما أنها قد تجلب معها فوائد ومزايا -إن أحسن التصرف فيها- تعود بالنفع على الاقتصاد العالمي بشكل عام والدول النامية بشكل خاص”
- بروز فوائض نسبية كبيرة لرؤوس الأموال:
إن الحركة الدائمة لرؤوس الأموال الباحثة عن الربح على الصعيد العالمي تعكس وجود كتلة كبيرة من الفوائض الادخارية غير المستثمرة، فأصبح من الضروري البحث عن منافذ لاستثمارها فراحت تبحث عن فرص استثمارية على الصعيد الدولي لتدر مردودا أفضل مما لو بقيت في الداخل أو مستثمرة بمعدلات ربحية متدنية في الدول المصدرة لهذه الأموال.
- ظهور الأدوات المالية الجديدة Financial Innovation:
تكرست العولمة المالية بنمو الأدوات المالية الجديدة التي استقطبت المستثمرين مثل المبادلات (Swaps) والخيارات
(Options) والمستقبليات (Futures)، بالإضافة إلى الأدوات التقليدية التي تتداول في الأسواق المالية وهي الأسهم والسندات.
- التقدم التكنولوجي:
يتكامل هذا العامل مع سابقه في الدور الذي تلعبه شبكات الاتصال ونقل المعلومات التي يتيحها التقدم التقني الهائل الذي نشهده اليوم, في ربط الأسواق المالية العالمية مما يسمح للمستثمرين بالفعل ورد الفعل على التطورات التي تحدث في هذه الأسواق بصفة آنية وفورية.
- أثر سياسات الانفتاح المالي:
ارتبطت زيادة تدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود وسرعة انسيابها بين سوق وآخر بشكل وثيق مع سياسات التحرر المالي الداخلي والخارجي.
2- العولمة المالية.. المزايا والمخاطر:
أ- المزايا:
يرى أنصار العولمة المالية أنها تحقق مزايا عديدة يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- بالنسبة للدول النامية:
يمكّن الانفتاح المالي الدول النامية من الوصول إلى الأسواق المالية الدولية للحصول على ما تحتاجه من أموال لسد الفجوة في الموارد المحلية، أي قصور المدخرات عن تمويل الاستثمارات المحلية, مما سيؤدي إلى زيادة الاستثمار المحلي وبالتالي معدل النمو الاقتصادي.
تسمح حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة Foreign Direct Investment واستثمارات الحافظة المالية Foreign Portfolio Investment بالابتعاد عن القروض المصرفية التجارية وبالتالي من الحد من زيادة حجم الديون الخارجية.
تخفيف تكلفة التمويل بسبب المنافسة بين الوكلاء الاقتصاديين.
تؤدي إجراءات تحرير وتحديث النظام المصرفي والمالي وخلق بيئة مشجعة لنشاط القطاع الخاص إلى الحد من ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
تساعد الاستثمارات الأجنبية على تحويل التكنولوجيا.
- بالنسبة للدول المتقدمة:
تسمح العولمة المالية للبلدان المصدرة لرؤوس الأموال (وهي في الغالب الدول الصناعية الكبرى) بخلق فرص استثمارية واسعة أكثر ربحية أمام فوائضها المتراكمة وتوفر ضمانات لأصحاب هذه الأموال وتنويعا ضد كثير من المخاطر من خلال الآليات التي توفرها الأدوات المالية والتحكيم بين الأسواق المختلفة.
ب - المخاطر:
لقد أثبتت تجارب عقد التسعينيات أن العولمة المالية بالنسبة للدول النامية كثيرا ما أدت إلى حدوث أزمات وصدمات مالية مكلفة (المكسيك والنمور الآسيوية والبرازيل وروسيا..). ويمكن إيجاز مخاطر العولمة المالية في النقاط التالية (3):
المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية للاستثمارات الأجنبية (خصوصا قصيرة الأجل مثل استثمارات الحافظة المالية).
مخاطر التعرض لهجمات المضاربة.
مخاطر هروب الأموال الوطنية.
مخاطر دخول الأموال القذرة (غسل الأموال).
إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية.
ولا يختلف كثيرا دور الاستثمارات الأجنبية الخاصة في تنمية البلدان الأقل نموا عن دور تحرير التجارة, فهذه الاستثمارات تأتي لخدمة التجارة الخارجية وبدافع تحقيق الربح الوفير والسريع، فهي بالتالى تعمل على تدعيم التقسيم الدولي القائم ولا تغيره لصالح الدول النامية، إذ إن رأي أنصار منظمة التجارة العالمية والمؤسسات الدولية الأخرى بأن تحرير التجارة والاستثمارات الأجنبية يسهم بشكل فاعل في تحقيق النمو الاقتصادي للدول تعترضه تحفظات، فكثيرا ما يكون النمو والأداء الطيب للاقتصاد هو الذي يجلب الاستثمارات الأجنبية الخاصة وليس العكس, حيث إن هذه الاستثمارات شأنها في ذلك شأن القروض الخارجية الممنوحة من طرف المؤسسات المالية الدولية تذهب إلى الدول التي نجحت بالفعل في رفع معدلات نموها أكثر مما تذهب إلى الدول التي تحتاج إلى هذه الأموال لرفع معدل نموها, كما يشهد بذلك توزيع هذه الاستثمارات بين مناطق العالم (4).
ففي عقد التسعينيات مثلا اتجهت الحصة الكبرى من الاستثمارات الأجنبية إلى الدول الصناعية الكبرى (5) (الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا واليابان)، وبلغت أكثر من 75% كمتوسط. وإن كانت الدول النامية قد أفلحت في زيادة حصتها من الاستثمارات فإن ذلك كان لصالح عشر دول ناشئة أو صاعدة وهي (الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والصين والهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والمكسيك وتايلند), حيث تستحوذ هذه الدول على ثلاثة أرباع مجمل تدفقات رؤوس الأموال إلى البلدان النامية (6)، وهذا التوزيع يفند فرضية التوزيع الأمثل والعادل لرؤوس الأموال على الصعيد العالمي.
وإذا نظرنا إلى تركيبة هذه الأموال فإننا نلاحظ المكانة الكبرى للاستثمارات الأجنبية المباشرة FDI والتزايد المطرد للاستثمار في الحافظة المالية FPI على حساب القروض التجارية الأخرى (7), وهو ما يعكس رغبة الدول المستقطبة لهذه الأموال في مثل النوعين الأولين لكونهما يخلقان فرصا جديدة للتمويل والتشغيل دون إثقال الديون الخارجية للدول.
أمام هذه الوضعية ما الإجراءات اللازمة للاستفادة من حرية التجارة والاستثمارات الأجنبية؟
3- الإجراءات اللازمة للاستفادة من الوضع الاقتصادي الدولي
لا توجد الدول النامية في منزلة واحدة من التقدم والتنمية، وبسبب عدم وجود حلول شاملة فإن المشاكل الداخلية التي على هذه الدول أن تتخطاها لجني ثمار سياسات الانفتاح والتحرير التجاري وجلب الاستثمارات الأجنبية قد تختلف من بلد إلى آخر. ولضمان ذلك لابد من تحقق جملة من الأهداف نذكر منها (8):
أ- استقرار السياسات الاقتصادية الكلية:
يعتبر وجود سياسة اقتصادية كلية عامة ثابتة ومستديمة شرطا ضروريا للاستفادة من الإمكانات التي تتيحها عولمة الاقتصاد.
”في عقد التسعينيات اتجهت الحصة الكبرى من الاستثمارات الأجنبية إلى الدول الصناعية الكبرى، وبلغت أكثر من 75% كمتوسط. وإن كانت الدول النامية قد أفلحت في زيادة حصتها من الاستثمارات فإن ذلك كان لصالح عشر دول ناشئة أو صاعدة ”
ب- تسيير المرافق العمومية بشكل محكم:
يكمن مفتاح قيام اقتصاد سوق أكثر حيوية في الدول النامية في نوعية التصرف في المؤسسات العامة وفي درجة ثقة الوكلاء الاقتصاديين المحليين والأجانب في هذا التسيير. ويمكن إيجاز العوامل المؤثرة إيجابا في هذا الأداء في النقاط التالية:
إطار مؤسساتي وقانوني يشجع تطور اقتصاد قائم على مؤسسات أكثر فاعلية.
خلق بيئة تنافسية تجعل السوق أكثر نجاعة.
ضمان شفافية أكثر لنشاط المؤسسات الاقتصادية.
إجراءات صارمة لمكافحة الرشوة والفساد.
ج- تدعيم القطاع المالي:
أظهرت التجارب أن الدول التي تحظى بقطاع مالي ومصرفي متحرر ومتطور هي في الغالب التي استفادت من الاستثمارات وحققت أداء اقتصاديا أفضل (9). كما برهنت هذه التجارب على أن نجاح الإصلاحات الهيكلية الكلية وقدرة الاقتصاد على مقاومة الصدمات الخارجية الفجائية ترتبط بدرجة سلامة القطاع المالي والبنكي, نظرا لأهميته في رفع كفاءة الاقتصاد وتحقيق الاستقرار الكلي المنشود في النقطة الأولى.
ومن المنتظر أن تكون مسألة تحرير وهيكلة الأنظمة المالية محور نقاشات قادمة في أروقة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، نظرا لحساسية هذا القطاع والتحديات التي تواجهه بعد أزمة نهاية التسعينيات.
د- تنمية المصادر البشرية:
إن مسيرة التنمية في الدول الأقل نموا أسيرة بتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة تفوق معدلات النمو الديمغرافي لتضييق الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، وهذا الأمر يتطلب تحقيقه تطوير وخلق الكفاءات والكوادر (رأس المال البشري) القادرة على توليد التقانة الأكثر ملاءمة لظروف هذه الدول، وذلك من خلال التركيز على عنصري التعليم والبحث العلمي والتطوير (R&D) (يضيق موضوع هذه الورقة عن التحليل).
هـ- إصلاحات سياسية:
إن نجاح سياسات التنمية فى البلدان النامية وتذليل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية داخلها ومع البلدان المتقدمة مرهون بإنجاز إصلاحات سياسية تسمح بمشاركة القوى الفاعلة والكفاءات الحية في رسم القرارات الاقتصادية والسياسية المصيرية (10). وفي ظل ما يشهده عالم اليوم من اتجاه محموم نحو العولمة والاندماج وزيادة الترابط والتشابك بين اقتصادات الدول, اتجهت مجموعات عديدة من البلدان لإقامة تكتلات اقتصادية لمواجهة تحديات العولمة وإثبات وجود في منظومة الاقتصاد العالمي بعد تزايد عدد الموقعين على اتفاقية الغات (GATT) التي أصبحت تدعى منظمة التجارة العالمية. وقد اتخذت هذه التكتلات الإقليمية محاور مختلفة منها ما هو شمال - شمال (المجموعة الاقتصادية الأوروبية) أو شمال - جنوب (منطقة التبادل الحر لأميركا الشمالية ΝAFTA) أو جنوب - جنوب (رابطة دول جنوب شرق آسيا "ASIAN" والمجموعات الاقتصادية الأفريقية..).
ثانيا: التكتلات الإقليمية في مواجهة عولمة الاقتصاد
1- الاتحاد الأوروبى:
تشمل عناصر الاندماج الاقتصادي في تجربة الاتحاد الأوروبي على عناصر الوحدة التامة مثل تحرير التبادل التجاري داخل الاتحاد وتنقل عوامل الإنتاج وتوحيد السياسات الاقتصادية والنقدية والضريبية بين الدول الأعضاء. ومنذ عقد التسعينيات ومع تزايد عدد الدول المنتمية إلى الاتحاد واكتمال مؤسساته بإنشاء البنك المركزي الأوروبي وبداية التعامل بالعملة الموحدة (اليورو) سنة 1999, يمكن القول إن تكتل الاتحاد الأوروبي أصبح كيانا متكاملا قويا على جميع الأصعدة ويلعب دورا حيويا فاعلا في منظومة الاقتصاد العالمي.
2- تكتل النافتا:
لم يقتصر هدف بناء التجمعات الإقليمية على بلدان ذات اقتصادات متجانسة ومتقدمة كالاتحاد الأوروبي في بدايته, وإنما تجاوزه إلى السعي لربط شبكات من التعاون أو الشراكة مع أطراف أقل نموا. وفي هذا المجال نلاحظ محاولات الاتحاد الأوروبي التوسع نحو الجنوب (بلدان أوروبا الشرقية والوسطى ودول جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط..) واتفاقية التبادل الحر لأميركا الشمالية.
ويثير هذا الصنف من التكامل (بين الشمال والجنوب) اهتمام عدد من الباحثين لما يطرحه من تساؤلات عن مدى نجاحه وعدالته، بسبب عدم تجانس أطرافه واختلاف مستويات تقدم اقتصاداتهم. ولتشخيص مزايا ومعوقات هذا النوع من العلاقات بين الشمال والجنوب ندرس بإيجاز حالة النافتا.
تأسس هذا التجمع الاقتصادي سنة 1994، ويضم الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك. وتعتبر أطرافه غير متكافئة، فنجد فيه المكسيك كبلد نام إلى جانب أقوى اقتصاد عالمي (الولايات المتحدة)، مما يترتب عليه اختلاف الأهداف المرجوة من اتفاق تحرير التبادل.
فبالنسبة للمكسيك، تهدف الشراكة مع أطراف شمالية قوية إلى الرغبة في تحقيق أهداف داخلية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والوصول إلى أسواق الدول الشريكة وجلب الاستثمار والتكنولوجيا، وبالتالي تحسين معدل النمو الاقتصادي.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فتطمح من وراء هذا الاتفاق إلى مواصلة سياساتها التجارية الدولية ومحاولة إقامة تكتل مواز للقوة الصاعدة للأوروبيين, بالإضافة إلى الرغبة في الاستفادة من اليد العاملة الزهيدة في المكسيك خاصة. لكن الهدف المرجو فعلا هو محاولة تقديم المكسيك "نموذجا" في الانفتاح الخارجي للدول النامية، وبالتالي جلب أطراف أخرى إلى فتح أسواقها أمام السلع والخدمات، وبالتالي الدخول في منظمة التجارة العالمية.
وأخيرا بالنسبة لكندا،فإنها تسعى ألا تبقى معزولة في محيطها القريب والاستفادة من ميزاتها النسبية في بعض المجالات (الاتصالات, النقل, التكنولوجيات الحديثة..).
غير أن تجربة هذا الاتفاق تعتبر حديثة النشأة مقارنة بتجربة الاتحاد الأوروبي مما يعوق تحليل انعكاساته, لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق يهتم بالجانب التجاري فقط, حيث لا يفترض وجود تنسيق للسياسات الأخرى (المالية والنقدية) بين الدول الأعضاء عكس الاتحاد الأوروبي حيث التكامل على جميع الأصعدة.
”الفشل في نجاح بعض التكتلات الإقليمية ذات محور جنوب-جنوب ومتطلبات الاندماج في منظومة الاقتصاد العالمي بشكل فاعل حدا بهذه الدول للجوء إلى شراكة محورها شمال-جنوب لما قد تجلبه من منافع تخدم اقتصادات الدول النامية بشكل خاص والاقتصاد العالمي بشكل عام”
3- تكتل رابطة دول جنوب شرق آسيا:
يهدف تكتل رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى بناء اقتصاد متكامل قوي يرتكز أساسا على تشجيع الصادرات وزيادة التبادل التجاري بين دول المنطقة.
وقد نجح هذا التكتل في الرقي باقتصادات المنطقة إلى صفوف الدول المصنعة حديثا أو الناشئة، ويعود ذلك إلى سياسة هذا التجمع الموجهة إلى الخارج والجاذبة لرأس المال الأجنبي، مما جعله نموذجا يحتذى في التكامل الإقليمي المفتوح.
ونشير هنا إلى أن الفشل في نجاح بعض التكتلات الإقليمية ذات محور جنوب-جنوب (مثل المجموعات الاقتصادية الأفريقية ومجلس الكوميكون..) ومتطلبات الاندماج في منظومة الاقتصاد العالمي بشكل فاعل حدا بهذه الدول للجوء إلى شراكة محورها شمال-جنوب لما قد تجلبه من منافع تخدم اقتصادات الدول النامية بشكل خاص والاقتصاد العالمي بشكل عام.
ويبدو ذلك جليا في تزايد أهمية إقامة نظام شراكة مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة أو تخفيف آثار عولمة الاقتصاد. وإذا كان بعض الاقتصاديين يثمنون أهمية الشراكة بين الشمال والجنوب فهناك من يشير بضرورة تنميتها بين دول الجنوب قبل ذلك.
بيد أن هناك من يرى أن التكتلات الإقليمية سواء شمال–جنوب أو جنوب–جنوب في ظل ترتيبات الغات سابقا ومنظمة التجارة العالمية حاليا، أدت بالإقتصاد العالمي إلى عولمته وليس العكس، حيث السائد أن هذه التكتلات جاءت لمواجهة عولمة الاقتصاد (11).
تكمن أهم إشكاليات الانخراط في منظومة الاقتصاد العالمي الجديد الذي تبلورت ملامحه مع قيام منظمة التجارة العالمية سواء كان ذلك طوعا أم قسرا, في التصاعد الكبير للتبعية الاقتصادية للدول الصناعية. وهنا تكمن مخاوف الدول النامية من هيمنة الدول الصناعية الكبرى، لاسيما في ظل النظام الدولي الجديد الذي يتسم بالأحادية القطبية (انظر الانتقادات الموجهة لمنظمة التجارة العالمية).
ثالثا: إشكاليات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية
تعتبر منظمة التجارة العالمية الحلقة الأخيرة –حتى الآن– في منظومة الاقتصاد العالمي المعاصر الذى يتسم بهيمنة النظام الرأسمالي بنظمه الاقتصادية والسياسية، وبناء على ذلك تعتبر مسألة العضوية في هذه المنظمة من المشاكل المطروحة التي تواجهها دول عديدة.
وترى البلدان الصناعية الكبرى المهيمنة أن على بعض الدول التي ترغب في الانضمام إلى المنظمة أن تستوفي جملة من الشروط اللازمة لذلك، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
إقامة نظام ديمقرطي.
حماية حقوق الإنسان.
حماية الملكية الفكرية.
عدم تشغيل الأطفال دون سن العمل.
إجراء إصلاحات جوهرية في أنظمتها القانونية بشكل يتطابق مع المواثيق والمعاهدات الدولية المتعددة في المجالات السابقة.
وهناك صنف آخر يرى في المنظمة تكريسا للهيمنة والتبعية للنظام الرأسمالي الذي يخدم مصالح القوى الغربية وجماعات الضغط فيها ويعتبرها جهازا آخر بالإضافة إلى المؤسسات الدولية الأخرى لإملاء السياسات والتحكم في العالم بعد أن أصبحت أشكال الاستعمار التقليدي المباشر غير منطقية.. وأنها تشكل عبئا على التنمية من خلال إلغاء الضرائب والرسوم الجمركية، وبالتالي حرمان خزينة الدول النامية من إيرادات هي في أمس الحاجة إليها. يضاف إلى ذلك تأثير المنافسة اللامتكافئة على دعائم اقتصادات الدول النامية وما ينجر عن ذلك من تأثيرات سلبية.
وفي الختام نشير إلى أن 142 دولة حتى 26 يوليو/ تموز2001 انضمت إلى المنظمة وأن ثلاثة أرباع هذا العدد من البلدان النامية.
فهل على البلدان المتبقية (12) إصلاح أنظمتها القانونية والسياسية وتأهيل اقتصاداتها حتى "ترضى" عنها القوى العظمى في المنظمة؟ أم أن بقاءها خارج المنظمة أجدى لها؟ وهل مزايا الانضمام إلى المنظمة تفوق انعكاساته السلبية؟
رابعا: خلاصة
تعتبر نهاية القرن العشرين منعطفا تاريخيا تميز باستكمال حلقات النظام الاقتصادي العالمي مع قيام منظمة التجارة العالمية بعد جولات عديدة امتدت من عام 1947 إلى عام 1994 عقدت خلالها ثماني جولات في إطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (GATT)، كان آخرها جولة الأورغواي التي دامت ثماني سنوات من عام 1986 حتى عام 1994 وأثمرت ميلاد منظمة التجارة العالمية.
وفي إطار هذه المنظمة والمفاوضات التي سبقتها، توسعت العلاقات التجارية الدولية وتشابكت منظومة الاقتصاد العالمي نتيجة لإزالة الحواجز الجمركية والجغرافية أمام حركة السلع والخدمات بين الدول وزيادة تدفق رؤوس الأموال وتبني غالبية الدول النامية لبرامج الإصلاح والتكييف الهيكلي والاعتماد على قوى السوق وتراجع دور الدولة في النشاط الاقتصادي، مما دفع بالاقتصاد العالمي نحو العولمة والاندماج.
”تعتبر نهاية القرن العشرين منعطفا تاريخيا تميز باستكمال حلقات النظام الاقتصادي العالمي مع قيام منظمة التجارة العالمية بعد جولات عديدة امتدت من عام 1947 إلى عام 1994 عقدت خلالها ثماني جولات في إطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (GATT)، كان آخرها جولة الأورغواي التي دامت ثماني سنوات وأثمرت ميلاد منظمة التجارة العالمية”
وقد اختلفت وجهات نظر المفكرين حول ظاهرة عولمة الاقتصاد، فمنهم من اعتبرها من أكبر المؤامرات التي تحاك ضد الدول النامية لاستغلال مواردها لصالح الدول المتقدمة، ومنهم من اعتبرها فرصة متاحة للدول النامية لعلاج المشاكل والصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها من خلال نقل التكنولوجيا والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ونخلص إلى القول بأن التصدي لعولمة الاقتصاد –ما بعد منظمة التجارة العالمية- إن كان ممكنا للدول الصناعية التي تتعامل مع الاقتصاد العالمي من موقع قوي ومؤثر, فإنه يصعب بالنسبة للدول النامية بسبب ضعفها في الاقتصاد العالمي والخلل العميق في موازينها الاقتصادية الدولية.
إن نصيب العالم الثالث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في تراجع منتظم، ولا يتناقض هذا مع واقع النمو الاقتصادي الذي شهدته عدة دول نامية (النمور الآسيوية) والمتواضع في مجمل الدول النامية الأخرى والسالب أحيانا, مما عمق الفجوة بين الشمال والجنوب.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبته منظمة التجارة العالمية في إخراج الاقتصاد العالمي من حالة الركود -من خلال تحرير وزيادة حجم التجارة الخارجية- فإن ذلك يبقى لصالح القوى الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان). كما أن استمرار تصاعد حدة الفوارق بين الدول الغنية والفقيرة يشكل هاجسا يضع علامات استفهام عديدة أمام: مَن المستفيد من تحرير التجارة الخارجية؟ وهل نظام الشراكة والاندماج بين دول الشمال والجنوب له ما يبرره؟
______________
باحث بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف
إن نصيب العالم الثالث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في تراجع منتظم، ولا يتناقض هذا مع واقع النمو الاقتصادي الذي شهدته عدة دول نامية (النمور الآسيوية) والمتواضع في مجمل الدول النامية الأخرى والسالب أحيانا, مما عمق الفجوة بين الشمال والجنوب.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبته منظمة التجارة العالمية في إخراج الاقتصاد العالمي من حالة الركود -من خلال تحرير وزيادة حجم التجارة الخارجية- فإن ذلك يبقى لصالح القوى الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان). كما أن استمرار تصاعد حدة الفوارق بين الدول الغنية والفقيرة يشكل هاجسا يضع علامات استفهام عديدة أمام: مَن المستفيد من تحرير التجارة الخارجية؟ وهل نظام الشراكة والاندماج بين دول الشمال والجنوب له ما يبرره؟
______________
باحث بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق