جذبت دراسة حديثة نشرها روبرت ماندوكا، باحث السياسة الاجتماعية بجامعة هارفارد، انتباه العديد من وسائل الإعلام الأمريكية. ووفقا لهذه الدراسة، اتسعت الفجوة بين المجتمعات الغنية والفقيرة في الولايات المتحدة بشكل كبير على مدى السنوات الأربعين الماضية. وفي عام 1980 كان حوالي 12% فقط من سكان الولايات المتحدة يعيشون في أماكن ثرية أو فقيرة للغاية، بينما تجاوزت هذه النسبة 30% في عام 2013.
في الواقع، لقيت مشكلة اختلال التنمية الإقليمية في الولايات المتحدة اهتمامًا متزايدًا من قبل الباحثين في السنوات الأخيرة، وتم إصدار تقارير بحثية عديدة ذات صلة. وفي هذا الصدد، أصدرت منظمة أبحاث السياسة العامة الأمريكية "المنظمة الداعية للابتكار الاقتصادي" قبل أشهر تقريرا بعد دراستها للحيوية الاقتصادية ودخل السكان والعمالة والإسكان والتعليم والأحوال الأخرى من مختلف الجوانب في مناطق الرموز البريدية المختلفة في الولايات المتحدة من عام 2007 إلى عام 2016، مشيرة إلى انه في عصر ما بعد الأزمة المالية، حصل عدد صغير من المناطق الأمريكية فقط على معظم فوائد الانتعاش الاقتصادي في البلاد. حيث كشف الباحثون من خلال تكامل البيانات، انه في هذه السنوات، تمت إضافة 3.6 مليون وظيفة في المناطق المتقدمة اقتصاديًا التي تمثل 20% من اجمالي مناطق أمريكا، تجاوزا مجموع عدد الوظائف الجديدة في مناطق أمريكا الأخرى.كما تراجعت درجة الرخاء في 30% من أرياف أمريكا، وهي نسبة أعلى بكثير مما في المدن والضواحي.
وتبين دراسة أجرتها مؤسسة بروكينجز في وقت سابق أنه بين عامي 2010 و2016، قد مثلت 53 تجمعا حضريا يعيش فيها أكثر من مليون نسمة ثلثي الناتج الاقتصادي وثلاثة أرباع نمو العمالة في البلاد. وفى الوقت نفسه، مثل النمو السكاني في هذه التجمعات الحضرية الـ53 93% من إجمالي النمو السكاني في الولايات المتحدة، ما يشير إلى التزامن بين الحركات السكانية والفرص الاقتصادية. ونتيجة لهذا الاتجاه، تحسن الوضع الاقتصادي في عدد صغير من مناطق الولايات المتحدة بشكل واضح، لكن الوضع في البلدات الصغيرة والمناظف الريفية يثير قلقا كبيرا.
ويعتقد بعض المحللين إن اختلال التنمية الإقليمية في الولايات المتحدة يرتبط بالتغيرات التي تطرأ على الهيكل الاقتصادي حاليا. ويعتبر صعود صناعات التكنولوجيا الفائقة سببًا مهمًا في هذا الصدد، حيث أن صناعات التكنولوجيا الفائقة تعد الجزء الأكثر ديناميكية في الاقتصاد الأمريكي، وقدمت عددًا كبيرًا من الوظائف ذات الدخل المرتفع في عصر ما بعد الأزمة المالية، لكن هذه الصناعة تتميز بالتكتل المكاني بصورة عامة. مثلا، ارتفع متوسط دخل الأسرة في سان فرانسيسكو بنسبة 13.2% في السنوات العشر الماضية، ليحتل المرتبة الأولى بين 100 تجمع حضري في الولايات المتحدة. وتليها سان خوسيه، بزيادة قدرها 12.7%. وتقع هاتان المدينتان بالضبط في منطقة خليج كاليفورنيا التي تتركز فيها صناعات التكنولوجيا الفائقة.
وفي هذا السياق، يعتقد الاقتصاديون أن اختلال التنمية الإقليمية مشكلة خفية للتنمية طويلة الأجل للاقتصاد الأمريكي. حيث أشارت تقارير وكالة أسوشيتيد برس إلى ان تحسن الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة لم يتحول إلى الازدهار التشاركي بسبب تفاقم اختلال التنمية الإقليمية في البلاد، ما يجعل الآراء حول الاقتصاد الأمريكي أكثر تعقيدًا. في الواقع، ليس اختلال التنمية الإقليمية مشكلة اقتصادية فحسب، لكنه يؤدي أيضًا إلى تفاقم الانقسام السياسي للولايات المتحدة. حيث يرى بعض الناس ان ظهور الشعوبية على نطاق واسع في السياسة الأمريكية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخسارة المستمرة للحيوية في البلدات الصغيرة الداخلية. وتختلف الميول السياسية بين السواحل الشرقية والغربية والمناطق الداخلية والحضرية والريفية اختلافا كبيرا.
في الحقيقة، هناك العديد من المشاكل الخفية للاقتصاد الأمريكي فضلا عن اختلال التنمية الإقليمية. حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة مونماوث في نهاية أبريل،ان 34% من الأمريكيين الذين يقل دخلهم السنوي عن 50 ألف دولار أمريكي فقط يعتقدون انهم قد استفادوا من النمو الاقتصادي،في حين يعتقد 58% من الأمريكيين الذين يتجاوز دخلهم السنوي 100 ألف دولار امريكي انهم مستفيدون من النمو الاقتصادي.كما تبين نتيجة استطلاع صادرة عن واشنطن بوست ومؤسسة البث الأمريكية في 7 مايو ان 62% من الأمريكيين يظنون أن النظام الاقتصادي بأكمله في صالح حامل السلطة.
لكن التوزيعات غير المتوازنة للمصالح المذكورة سابقا لم تدخل على الإطلاق نطاق مناقشة السياسة لصناع القرار في الولايات المتحدة حتى اليوم. بل تقوم الحكومة الأمريكية الحالية بـ "إبراز نتائجها" في الاقتصاد الكلي من خلال بعض البيانات الاستثنائية فقط، وهدفها الوحيد هو الانتخابات العامة في العام المقبل. وبطبيعة الحال، فإن الطلب من الحكومة الأمريكية الحالية ايلاء الاهتمام أكبر للفئات ذات الدخل المنخفض هو "طلب فظّ أصلا" -- إذا وضع صناع السياسة في الولايات المتحدة حقًا مصالح الفئات ذات الدخل المنخفض في لب عملية صنع السياسات، فكيف يمكنهم إثارة نزاعات تجارية في كل مكان، الأمر الذي سيجلب المزيد من الصدمات للحياة الصعبة الحالية لهذه الفئات؟
/صحيفة الشعب اليومية أونلاين/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق