في إطار تقييم التقلبات الطارئة على ميزان القوى، يبدو مفهوم "الاختزالية الاقتصادية" مغريا لكنه في ذات الوقت مضلل للغاية.
في بعض الأحيان، تحول الدول صاحبة الناتج الإجمالي المحلي المرتفع بعضا من مواردها الاقتصادية إلى القوة العسكرية، وأحيانا تستخدم تلك القوة العسكرية على نحو يزعج النظام القائم.
لكن مثل هذا الوضع ليس حتميا. ولنضرب مثالا بالصين التي رغم اقترابها من امتلاك الناتج الإجمالي المحلي الأكبر في العالم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها ستسعى إلى قلب الوضع الشرق الأوسطي الراهن.
الأمر الذي يكتسب أهمية كبيرة هي الاختيارات التي سيفضلها القادة الصينيون بشأن استخدام النفوذ الاقتصادي المتنامي للدولة الأسيوية.
ملاحظة (هذه التقديرات تعتمد على افتراض قوة شراء متساوية، وهو ما يجعل العديد من الاقتصاديين يعتقد أنها تجعل الاقتصاد يبدو أكبر مما هو عليه بالفعل، لكنه موضوع سنعلق عليه مستقبلا).
ثمة مثال تاريخي يوضح مسألة أن الاختيارات أكثر أهمية من ترتيب الناتج الإجمالي، ألا هو الحرب العالمية الأولى، التي خلقت فوضى طويلة المدى في أعقاب نظام نسبي.
ووفقا للرواية المثيرة للجدل، فقد اندلعت حرب أغسطس 1914 بسبب تحدي ألمانيا لهيمنة بريطانيا العظمى على النظام الدولي آنذاك، لكن مثل هذه الرواية تغاير التصنيفات الاقتصادية في ذلك الوقت، وفقا لتقديرات المؤرخ الاقتصادي البارز الراحل أنجوس ماديسون\
ففي عام 1913، الذي سبق انطلاق الحرب، كانت الولايات المتحدة تتبوأ صدارة الناتج الإجمالي المحلي بين دول العالم، بما يزيد بالكاد عن 500 مليار دولار، وفقا لأسعار 1990.
أما الدول الأربعة التالية فكانت ذات أرقام متقاربة تراوحت بين 225ـ 240 مليار دولار، وضمت كلا من ألمانيا وبريطانيا العظمى وروسيا والصين التي قد يثير وجودها في تلك المجموعة في ذلك الوقت علامات الدهشة.
وتلا ذلك في القائمة كل من فرنسا (144مليار دولار)، كما لم تكن اليابان تمتلك ناتجا إجماليا محليا يتجاوز 71 مليار دولار.
لكن الواقع أن المرتبة الثانية عالميا للاقتصاد الصيني في ذلك الوقت لا تمثل مفاجأة، فقد كانت بكين في 1913، وما زالت تمتلك التعداد السكاني الأكبر عالميا، بما يعني قدرة بشرية أكبر على الإنتاج، لكن المشكلة أن الصين كانت ضعيفة سياسيا ومنقسمة داخليا، وعرضة للاستعمار.
ورغم أن العالم اليوم يختلف بشدة عما كان عليه منذ قرن، لكن الترتيب الذي شهده 1913 ما زال يحمل دلالات يمكن الاسترشاد بها.
بادئ ذي بدء، يظهر ترتيب عام 1913، أن الاقتصاد الكبير في حد ذاته لا يترجم بشكل تلقائي إلى نفوذ سياسي عالمي.
فخلال العام المذكور، كانت الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد العالمي الأكبر، لكنها كانت خارج الصورة مقارنة بعاصفة أوروبا العتية بريطانيا العظمى، كما أنها على الجانب الآخر بذلت ما يتجاوز وزنها الحقيقي، في سبيل حفظ الاستقرار في النظام الدولي.
ثانيا، الاقتصاد الكبير لا يتفتق عنه بالضرورة جيش قوي، إذ كانت الولايات المتحدة تمتلك مؤسسة عسكرية صغيرة نسبيا عام 1913، بالرغم من صدارتها قائمة الدول صاحبة أكبر ناتج إجمالي محلي في العالم، بعكس ألمانيا واليابان اللتين امتلكتا جيشين وأسطولين كبيرين بالنسبة لحجمهما الاقتصادي.
ثالثا، لا يعني تصدر دولة جديدة خريطة العالم الاقتصادية حتمية حدوث صراع عالمي، فقد كانت واشنطن تتبوأ الصدارة، لكن بريطانيا العظمى قبلت بذلك التراجع.
وعلى الجانب الآخر، قاتلت اليابان وانتصرت على دولتين تفوقناها اقتصاديا ثلاثة أضعاف، هي الصين عام 1894-1895، وروسيا (1904-1905).
واختارت بريطانيا والولايات المتحدة التوافق مع اليابان وليس تحديها، بالرغم من مصالحهما الاقتصادية والاستعمارية في شرق آسيا.
رابعا، عندما تحدث الصراعات، ليس بالضرورة أن يتمثل السبب في الميول العدوانية لقوة صاعدة. ففي الحرب العالمية الأولى، كان قرار ألمانيا بالدخول في الحرب في صيف 2014 مدفوعا بالتزامات تحالف صارمة، والقلق من تزايد قوة روسيا. واختارت برلين شن ضربات وقائية للحفاظ على أمنها، ودخلت روسيا كذلك ذات الشرك.
ويمكن القول بالاختصار إن الاختيارات التي تقررها القوى العظمى تتجاوز أهمية ترتيبها الاقتصادي.
وقد تفترض الصين أن لديها الحق في مد نطاق تأثيرها على حساب الآخرين، وتعمل من أجل تنفيذ ذلك الافتراض، وقد يصب توسعها الحالي في محيطها الإستراتيجي بالشرق وجنوب الصين في ذات الاتجاه.
وقد تستمر الصين في التركيز على اقتصادها، وخلق حياة مزدهرة لمعظم السكان، تاركة للولايات المتحدة تحمل أعباء قيادة العالم على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وقد تستخلص الصين أيضا أسوأ ما تفعله الدول الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة، وتعمل بموجب تلك المخاوف.
الخطوات التي ستنتهجها الصين ستكون ذات عواقب عميقة في شرق آسيا والعالم بأسره.
الولايات المتحدة أيضا تمتلك خيارات إذ قد تنظر إلى تراجعها للمرتبة الثانية اقتصاديا باعتباره علامة أخرى على انحدار دائم من نقطة القيادة الدولية.
تستطيع واشنطن اختيار إعادة بناء دعائم قوتها المحلية التي أهملتها، مثل التعليم والعلم والتكنولوجيا.
أو قد تخلص واشنطن بدون مبرر إلى نتيجة مفادها أن الصين هي خصم الولايات المتحدة، وتبني سياستها على تلك المخاوف، وهو ما سيجعل الأمور تدور في دائرة شريرة تتسم بالخطورة.
كما قد تتخلى أمريكا عن إغراء قراءة أسوأ ما في النهضة الصينية، وتلجأ للتعاون مع بكين لا الصراع معها للتأثير على المسار الصيني.
وبالنسبة لكل دولة، فإن عدم اتخاذ قرارات بشأن اتجاهها المستقبلي سيكون قرارا في حد ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق