ليست الرؤية الضيقة في خطط التنمية الحكومية وحدها وراء فشل النهضة بصناعة عربية تحويلية ذات قيمة مضافة عالية. فما هي أبرز الأسباب الأخرى التي تقف وراء هذا الفشل الذي يحرم هذه الدول من الإبداع وتطوير التكنولوجيا المحلية؟
من رؤية "السعودية 2030" إلى رؤية "الكويت 2035" مرورا برؤيات وخطط خمسية وعشرية مشابهة في مصر والجزائر وسوريا تزداد الرؤيات الاقتصادية العربية الهادفة إلى تنويع مصادر الدخل الوطني والخروج من التبعية للنفط والغاز والمواد الأولية الأخرى ذات القيمة المضافة المتدنية. لكن الملاحظ في هذه الرؤيات على اختلافها يتمثل في غياب خارطة لتطوير صناعات تحويلية متكاملة تخلق قيمة مضافة عالية وفرص عمل كافية إضافة إلى تعزيز روح الإبداع بدلا من المشاريع الكبيرة التي تعتمد على كثافة رأس المال.
الجدير ذكره هنا أن الصناعات التحويلية الألمانية تساهم بنسبة 80 بالمائة من الإبداع التقني في السوق الألمانية. وعلى الرغم من أهمية الصناعات الكبيرة، فإن دولا عربية كالجزائر ومصر والعراق أقامت منها عشرات المشاريع التي لم تثبت جدواها واستدامتها مثل صناعات المكائن الجزائرية وصناعات الحديد والصلب والمصرية. كما أن هذه الصناعات بقيت فيما يشبه الجزر المعزولة في المدن الكبيرة كونها لم تؤدي إلى النهوض بصناعات تحويلية صغيرة ومتوسطة كثيفة العمالة سواء في المدينة أو في الأرياف.
غياب الصناعة عن خطط التنمية
في الواقع اعتمدت خطط التنمية العربية وبرامج تنفيذها أيضا في المجال الصناعي على مخططين ركزوا جل اهتمامهم على مشاريع بهرجة انتقائية يتم الافتخار بضخامتها أكثر من الاعتداد بكفائتها وأدائها. كما أن هذه المشاريع اعتمدت على نقل التكنولوجيا الأجنبية دون توطينها لاحقا من خلال صيانتها وتطويرها بالاعتماد على الأيدي العاملة المحلية كما فعلت دول في شرق آسيا مثل ماليزيا وفيتنام وقبلهما كوريا الجنوبية والصين.
ومن هنا يرى خبراء أمثال فلوريان اميريلا، مدير مؤسسة اميريلا للاستشارات القانونية أنه لا بد من التوجه إلى "الصناعات المحلية الصغيرة منها والمتوسطة التي تعتمد على الناس المحيطين بها من خلال دمجهم في أنشطتها". ومما يعنيه ذلك إقامة صناعات تعتمد على عمال من الناس المحليين بعد تأهيلهم وعلى إنتاجهم من مواد أولية وبسيطة دون إهمال مسألة الإنتاج بمواصفات قادرة على منافسة السلع الأجنبية. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن التأسيس لصناعة كهذه في ظل رفض فئة قليلة تتحكم بصناعة القرار الاقتصادي ولا تسمح بتطوير شامل للبلد انطلاقا من مصالحها الضيقة والخاصة؟
تغيرات راديكالية مطلوبة
في الندوة والحوارات التي شهدها الملتقى الاقتصادي العربي الألماني العشرين يومي 16 و 17 مايو/ أيار الجاري بتنظيم غرفة التجارة العربية الألمانية ورعاية وزيرة الاقتصاد والطاقة الألمانية يريغيته تسيبريس في العاصمة برلين أكد المشاركون العرب والألمان على وجود فرص ضخمة بمقومات مادية وبشرية محلية للنهضة بالصناعة العربية التحويلية رغم المخاطر الأمنية وضيق أفق التخطيط والعمل في الإدارات الحكومية والفساد المنتشر فيها.
غير أن هذه الفرص لايمكن استغلالها دون قلب أنظمة التعليم رأسا على عقب بحيث يتم تعميم التأهيل المهني وتغيير ثقافة العمل بشكل راديكالي. ومما يعنيه ذلك التخلص من خرافة أن هناك أعمالا لا تليق بجميع الباحثين عن عمل مهما اختلفت خبراتهم وأخرى تليق بهم! على حد تعبير ميشائيل فرينتسل مدير شركة كارل كولب الألمانية للامدادات التقنية. وفيما عدا ذلك فإن الشركات الصناعية الألمانية ستبقى دائما مترددة في الاستثمار المباشر في الصناعة العربية كونها تريد مشاريع مستدامة لا تخضع لمخاطر هجرة وتنقل العمالة الأجنبية.
تجارب منيرة
تشير تجارب في دول مثل سلطنة عمان إلى أن وجود عمالة محلية مدربة ومنضبطة وتتمتع بثقافة عمل منفتحة يأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع الشركات الألمانية للاستثمار المباشر في الصناعات التحويلية على حد قول خالد ناصر الصالحي عضو مجلس إدارة غرفة صناعة سلطنة عمان. ويضيف الصالحي في حديث خص به DW عربية أن عشرات الشركات الألمانية وبفضل توفر العمالة المحلية المدربة تستثمر في عمان بشكل مباشر وغالبا من خلال مشاريع مشتركة في إنتاج الكابلات والأغذية والمعدات الصناعية على اختلافها ليس للسوق العمانية فقط، بل للتصدير إلى الأسواق المجاورة وفي مقدمتها السوق الخليجية وأسواق الهند وباكستان.
لا صناعة بدون كوادر مدربة
تركز الدول العربية منذ سنوات على تقديم الاعفاءات الضريبية والامتيازات الأخرى المؤقتة للشركات الأجنبية بهدف جذبها للدخول مع مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص. وعلى الرغم من أهمية ذلك في فترات التأسيس والانطلاق، فإنه من الصعب البناء على الامتيازات المؤقتة في إقامة مشاريع ناجحة، بقدر البناء على الخبرات والأيدي العاملة المحلية المدربة والمؤهلة.
وهذا ما يلمسه علي فيتسفاي، نائب مدير شركة بلفنكر العالمية للتخطيط الصناعي من خلال التجربة في أكثر من دولة عربية. "في دول مثل الإمارات نجد سهولة أكثر مما هو عليه الحال في السعودية في إيجاد الكفاءات المحلية والأجنبية المؤهلة بشكل يساعد على إنجاز المشاريع بالسرعة المطلوبة"، يقول علي، مفسرا ذلك بأن الإمارات من الدول السباقة إلى اعتماد نظام التدريب المهني المزدوج بشكل مبكر وعلى نطاق واسع.
وبالمحصلة فإن أي عملية تصنيع لا تواكبها عملية تأهيل مهني للعمالة المحلية وتغييرات راديكالية في ثقافة العمل سيكون مصيرها الفشل في الدول العربية. ومن هنا فمن الحري بها العمل على تطبيق نظم تدريب مهنية مزودجة تجمع بين التعليم النظري والتطبيقي شبيهة بتلك التي تعتمدها دول مثل ألمانيا وسويسرا وماليزيا وكوريا الجنوبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق