خلال القرن الماضي، أسهمت برامج المساعدات الأجنبية ببدء حقبة من التقدم غير المسبوق في تاريخ الدول النامية؛ حيث تراجع معدل وفيات الأطفال والفقر المدقع إلى النصف، كما أسهمت الشراكات المبتكرة متعددة الأطراف، مثل الصندوق العالمي والتحالف العالمي للقاحات والتحصين «جافي» – التي تُعدّ الولايات المتحدة أكبر ممولٍ لهما – في إنقاذ ملايين الأرواح؛ حيث نجحا في تخفيف عبء الأمراض المعدية مثل الملاريا، والإيدز، والسلّ، كما انضمت مؤسسة بيل وميليندا غيتس إلى هذه المبادرات الهادفة إلى تخفيض تكاليف اللقاحات والتدخلات الطبية الأخرى، لتعزز بذلك من تأثيرها الكبير على الصحة العالمية.
ووفقاً للعديد من الدراسات فإن برامج الصحة والتنمية يتولد عنها أرباح اقتصادية هائلة، فمثلاً في مقابل كل دولارٍ أميركي يتم استثماره في تحصينات الأطفال، تحقق الدول النامية 44 دولاراً على شكل فوائد اقتصادية تستفيد منها هذه الدول.
بيد أن معظم الناس لا يدركون التقدم الهائل الذي حققته المساعدات الإنمائية؛ فبحسب إحدى الدراسات الاستقصائية التي جرت مؤخراً وشملت 56409 أشخاص من 24 دولةً، يدرك شخص واحد فقط من بين 100 شخص أن معدل الفقر العالمي قد تراجع إلى النصف، بينما يعتقد أكثر من ثلثي هذا العدد أن معدل الفقر المدقع قد شهد تزايداً، ومثل هذه المفاهيم الخاطئة تعزز من النظرة المتشائمة التي تعتبر ميزانيات المساعدات الأجنبية عرضة للخطر على المستوى السياسي.
ما يزيد المشكلة تعقيداً أن سكان الدول المانحة غالباً ما يبالغون في تقدير المبالغ المالية التي تنفقها حكوماتهم على هذه المساعدات، ففي الولايات المتحدة، تمثل المساعدات الأجنبية أقل من 1% من الميزانية الفيدرالية إلا أن أحد استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً كشف أن 73% من الأميركيين يعتقدون أن المساعدات الأجنبية تسهم «بشكل كبير» أو «بقدر لا بأس به» في زيادة حجم الدين الوطني.
وثمة مفهوم خاطئ آخر من شأنه أن يفسد تصور الدول المانحة، ويرتكز على فكرة أن منح المساعدات للدول النامية ما هو إلا بادرة من بوادر السخاء الذي لا يعود بأي منفعة ملموسة على الدول المانحة، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماماً لأنه من مصلحة الدول المتقدمة، على الصعيدين الأمني والاقتصادي، أن تساعد في تمويل برامج التنمية.
ففي غياب الدعم القائم على المساعدات الخارجية، يستطيع الفقر وعدم الاستقرار المتزايدين أن يجرّا الدول المتقدمة إلى خوض صراعات بعيدة والتسبب بحالة من عدم الاستقرار في عقر دارهم على شكل أزمات الهجرات الجماعية واللاجئين، فضلاً عن انتشار الأوبئة. ولكن عندما يتم استغلال المساعدات لدعم مصادر الدخل المتنامية في الدول النامية، فإن ذلك سيسهم بإيجاد فرص عمل في مجال التصدير على الصعيد المحلي. فمن بين 15 من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة – وهي دول تتمتع باكتفاء ذاتي وتستهلك سلعاً وخدمات أميركية – هناك 11 دولة كانت تتلقى مساعدات سابقاً.
كما أن هناك العديد من الدول النامية الأخرى التي تسعى إلى امتلاك زمام مستقبلها؛ حيث أصبحت هذه الدول تسهم بشكل كبير في تحقيق التنمية من خلال البرامج العامة المحلية التي تدعمها سياسات ضريبية ومالية ذكية، يُضاف إلى ذلك أن هذه الدول تُعطي أولية قصوى لتنفيذ مشاريع الاستثمار في مجالات حيوية، مثل التعليم، وخدمات الرعاية الصحية الأساسية، وزيادة الإنتاج الزراعي، وهي بمثابة اللبنات الأساسية لبناء مستقبل مزدهر يتميّز بالاكتفاء الذاتي. كما أن الأعمال ورؤوس الأموال الخاصة تقوم بتوسيع دورها في مشاريع التنمية.
وحتى الآن تبقى المساعدات التي تقدمها الدول المانحة ضروريةً لسد الفجوات في التمويل المحلي، ومعالجة إخفاقات السوق، وزيادة استثمارات القطاع الخاص. ومما لا شك فيه أنه على الرغم من المكاسب الهائلة التي شهدها العقدان الماضيان لصالح الإنسان، إلا أنه ما زال هناك الكثير من العمل المطلوب إنجازه لمواصلة التقدم في مجالي الصحة والتنمية.
فلا يزال أكثر من مليار شخص يعيشون على أقل من دولارٍ واحدٍ يومياً، كما يقضي أكثر من ثلاثة ملايين من الرضّع نحبهم في الشهر الأول من حياتهم. وبالتالي فإن معالجة هذه المشكلات وغيرها من التحديات المزمنة – والتي تأتي ضمن مجموعة الأهداف الطموحة في مجالي الصحة والتنمية التي تسعى الأمم المتحدة لتحقيقها بحلول عام 2030 ضمن أهداف التنمية المستدامة – سيكون أمراً مستحيلاً في غياب مواصلة تقديم المساعدات الإنمائية.
هذا لا يعني أن برامج المساعدات القائمة حالياً تعتبر مثاليةً، بل يجب علينا أن نبذل المزيد من الجهد في سبيل الاستمرار بتطوير هذه البرامج، بيد أن الشكاوى التي تفيد بأن أموال المساعدات لا يتم استغلالها بشكل مثالي تؤدي إلى تفاقم المشكلة بصورة أكبر. والحقيقة أنه بفضل التجارب الموسعة في تصميم وتنفيذ برامج المساعدات الإنمائية التي تتسم بفعاليتها من حيث التكلفة، فإن الأموال التي يتم استغلالها بشكل خاطئ لا تمثل سوى نسبة ضئيلة للغاية من مجموع الأموال المستثمرة في المساعدات.
وربما يرجع السبب الأكبر في تكوّن هذه الصورة النمطية إلى نقص المعلومات، لذا فإن العاملين في مجال التنمية يتعيّن عليهم أن يجتهدوا لتعزيز التواصل مع صنّاع السياسات وعامة الناس، وأن يوضحوا لهم آلية عمل برامج المساعدات الإنمائية، والتقدم الذي أحرزته.
على الرغم من كل هذه الشكوك الراهنة، إلا أنه يحدوني التفاؤل بأن التقدم في مجاليّ الصحة والتنمية على الصعيد العالمي سيواصل مسيرته، ونظراً لعملي في هذه المجالات قرابة عقدين من الزمن لدى الأمم المتحدة وحالياً في مؤسسة بيل وميليندا غيتس، أدرك بأن قضية المساعدات الإنمائية قد باتت واضحة وملحةً، وأعتقد أن العالم لن يدير ظهره للتحدي التاريخي المتعلّق بتقليص الفوارق في الصحة العالمية، والقضاء على الفقر المدقع، وبناء عالم أكثر إنصافاً وأمناً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق