البقاء في البيت هو أفضل سلاح للحماية من وباء كورونا، لكن الانهيار الاقتصادي العالمي قد يكون اكبر تهديد للحياة الانسانية. في مرحلة ما سنخاطر بحياة الناس في الحاضر لأجل انقاذ اولئك في المستقبل.
الناس في جميع انحاء العالم حُبسوا حاليا في البيوت. الإغلاق نشأ كوسيلة رئيسية لمواجهة وباء كوفيد 19 لأنه لاشيء آخر متوفر غيره. ان تطوير لقاح ضد الفايرس سيأخذ على الأقل سنة كاملة حتى في ظل اكثر الافتراضات المتفائلة. ستكون هناك حاجة ليُصنّع اللقاح على نطاق صناعي ومن ثم يُطبّق وفق برامج تلقيح شاملة.
من الصعب ان نرى كل هذه الأشياء تحدث في أقل من 18 شهر، حتى ضمن سباق بطولي سريع. ولكن لنتصور اننا نجحنا في اختصار كامل العملية الى فترة سنة. هل يمكن لاستراتيجية الإغلاق ان تنجح خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة؟
ان الإغلاق يجلب معه مشكلتين رئيسيتين:
المشكلة الاولى تؤثر على الفرد. هل يمكن للناس ان يبقوا محتجزين في ظل هذا الشكل من الاقامة الجبرية الحميدة لمدة سنة كاملة؟ لن يكون هناك اي مرح لو كنا نعيش في اماكن ضيقة.
المشكلة الثانية هي اجتماعية. كتب (جون دون) في القرن السابع عشر، "لا يوجد انسان منعزل كالجزيرة، مكتمل بذاته.. انا منخرط مع البشرية" وهذه المشاعر تتضح كثيرا في مجتمع اليوم العالي التنظيم والأكثر ترابطا. ان تقسيم العمل الذي بشّر به آدم سمث كشيء مركزي في الثورة الصناعية جلب لنا فوائد هائلة في الثروة والصحة والسعادة، ولكن لا احد في هذه الايام يقترب من الكفاية الذاتية.
معظم الناس يتفقون على ان إغلاق البلاد لمدة سنة واحدة ليس مقترحا قابلا للتطبيق. هو يمكن ان يكون اجراءا مؤقتا. ولكن اذا لم يكن 12 شهرا فكم سيكون؟
نموذجنا الحالي يقترح ان شهرين هي أقصر فترة يمكنها ان تخلق فرقا مفيدا في مسار وتأثير الوباء. ان الاغلاق الذي دخل حيز التطبيق في 23 مارس في المملكة المتحدة خلق تباطؤاً مريحا في نمو الاصابات بعد خمسة ايام. الهبوط البطيء في الاصابات اليومية الجديدة كان واضحا في ايطاليا منذ 21 مارس، بينما نفس المؤشر من حيث الهبوط بدأ في اسبانيا في الايام الاولى من ابريل. ونفس الشيء حدث في المانيا.
ان العدد الكبير من حالات الاصابة اليومية ستؤجل الاستعداد لموجة ثانية من الوباء. النسب المثالية للإصابة ستهبط دون الارقام الحالية، وهذا الهبوط المؤقت سيعطي وقتا اطول لبناء مستشفيات وتجهيزها بعشرات الالاف من اجهزة التنفس، من الممكن ايضا ان تبدأ الادوية المضادة للفايروسات بالعمل.
لكن هناك كلفة للإغلاق الطويل، ليس فقط في تراجع وظيفة المجتمع وانما ايضا بالنسبة لحياة الانسان. صحة الامة واقتصادها مترابطان بقوة لدرجة يمكن اعتبارهما مظهران مختلفان لشيء واحد.
في عام 1975، وضع (صاموئيل بريستن) Samuel preston مخططا لعدد سنوات الحياة المتوقعة عند الولادة مقابل الناتج الاجمالي المحلي لكل شخص ورسم منحنى يصف كيف ان مواطني الدول الأغنى يعيشون اطول عمراً من نظرائهم في الدول الفقيرة. الاطفال الذين ولدوا في بعض دول افريقيا السوداء يتوقع ان لا تزيد حياتهم عن 55 سنة، بينما اولئك الذين ولدوا في اليابان سوف لن يموتوا قبل سن الـ 85 عاما، بفارق ثلاثة عقود. حكم قيمي جرى تطويره في جامعة بريستول كطريقة لإيجاد توازن موضوعي بين الزيادة في الحياة المتوقعة والإنفاق المطلوب لإحداث مثل هذا التحسن. الاختلافات الملاحظة في الحياة المتوقعة يمكن توضيحها باستعمال الحكم القيمي.
مع ان التوضيحات يمكن وصفها رياضيا لكن الرسالة الاساسية للحكم القيمي واضحة بديهيا. عندما تكون الدول فقيرة، هي لا تستطيع تخصيص الموارد الكافية لمعايير الصحة والسلامة والتي تتراوح من تجهيز الماء النظيف وانظمة الصرف الصحي، الى تبنّي ممارسات عمل آمنة في الصناعة وتوفير خدمات طبية ذات نوعية عالية لمواطنيها.
الانسان هو انسان، اينما يعيش. الحكم القيمي يجلب هذا الشعور المشترك بوضوح، وهو يوضح 80% من التباين في الحياة المتوقعة وفي الناتج المحلي الاجمالي لـ 162 من بين 193 دولة في الامم المتحدة. يمكن حساب التغيير في الحياة المتوقعة الناتج عن اي تغيير في الدخل لكل فرد.
اذا كان هناك هبوط دائم في الناتج المحلي الاجمالي لكل فرد، عندئذ فان متوسط الحياة المتوقعة للسكان سوف ينخفض. تطبيق الحكم القيمي على كوفيد 19 يبيّن انه لو كانت الاجراءات المضادة للمرض تسبب هبوطا في الناتج المحلي الاجمالي لكل فرد في البلد المتطور بمقدار 6.4% او اكثر لفترة طويلة من الوقت فان كلفة الارواح التي ستُفقد ستكون اكثر من المكاسب. من الواضح ان الناتج المحلي الاجمالي لكل فرد في المملكة المتحدة هبط بمقدار 6% في الأزمة المالية عام 2007-2009. هذا قاد الى تأخير سنتين في توقعات الحياة للامة.
ان كوفيد 19 جعل الاقتصاد العالمي يهبط بنسبة غير مسبوقة. المشكلة الاساسية في استراتيجية الاغلاق هي ان شركات الأعمال لا يمكنها التوقف عن العمل شهر واحد ثم تعود مجددا بعد عدة اشهر لاحقا. اذا هي لم تستمر بالعمل فان الشركة لاتذهب الى سبات وانما تخرج من العمل كليا. العديد من الحكومات تحاول تخفيف وقع الصدمة من خلال المنح والقروض، ولكن كلما استمر الاغلاق لفترة اطول كلما كانت نسبة الشركات الضائعة اكبر.
قامت مؤسسة البحوث الاقتصادية (IFO) ومقرها المانيا بتحليل تأثير الاغلاق على المانيا. قامت بتحليل قطاع بعد آخر وكشفت عن ان ابقاء الاقتصاد مغلقا جزئيا لمدة شهرين سوف يقلل الناتج المحلي الاجمالي للامة بين 7.2% و11.2%. اذا كانت هذه الارقام تمثل اقتصاديات متطورة اخرى، فان شهرين ربما هي سلفا وراء النقطة التي يسبب فيها العلاج ضررا اكثر من الراحة، بما يعني ان هذه الفترة هي اطول ما يمكن تأمله.
من الواضح ان العالم يواجه موقفا خطيرا جدا لا توجد فيه خيارات سهلة. الإغلاق المؤقت اثبت انه ذو قيمة، ولكن بالنسبة لصحة الانسان يجب على الحكومات التفكير طويلا قبل تمديد الإغلاق لأكثر من شهرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق